1. جون ديوي ..رائد التعلم بالخبرة
ذ. حميد بن خيبش
تكاد ل تخلو منظومة تربوية من أثر لراء جون ديوي و تعاليمه , فهذا المريكي القادم من فرمونت
أعاد للفلسفة نضارتها , وأرجعها إلى أصلها الطيب باعتبارها محبة للحكمة . و ذلك حين اشترط أن يدور فعل
التفلسف حو ل التربية من جهة كونها تاج الهتمامات النسانية ! وميز من خل ل هذا الموقف بين نوعين من
الفلسفة : نوع متصل بالحياة , يستمد منها شرعيته ووظيفته , وهو التربية , و نوع منعز ل عن الحياة و تمثله
)1
.)الفلسفة اللفظية
في كتابه " عقيدتي الفلسفية" يلخص ديوي مرتكزات نظريته التربوية كما يلي : 1- التربية سمة بشرية بفضلها
تتوارث الجيا ل ما حصلته النسانية من حضارة 2- الفعل التربوي فعل ل شعوري يتحقق من خل ل محاكاة
الفرد لمجتمعه 3- ينبغي أن تكون التربية الحديثة ثمرة علمين هما : علم النفس و علم الجتماع , فالو ل يجلي
جُ
نفسية الطفل , و الثاني يحدد مطالب المجتمع ! وبذلك يكون ديوي سباقا إلى التعبير عن روح التربية الحديثة في
دعوتها إلى تبني التجريب العلمي , والقطع مع مباديء التربية التقليدية التي لم تفلح سوى في " قتل روح
البتكار لدى التلميذ و تحولهم الى نوع سيء من المواطنين , ذلك النوع الذي ل يصلح إل لكي يؤمر فيطاع , أو
)2
)توضع له الخطط فينفذ , لنه يعيش وهويفكر على فتات أفكار الخرين .."
وحتى تحدث النقلة النوعية المطلوبة على نحو عملي , أنشأ ديوي في فترة رئاسته لقسم الفلسفة بجامعة شيكاغو ,
مدرسة أولية للتعليم تخالف, من حيث المنهج و المقررات الدراسية , ما هو سائد , وسميت "المدرسة المعملية "
لنها لم تقتصر على تدريس الفلسفة و التربية و علم النفس بل ألحقت بها معامل لعلوم الطبيعة و الكمياء . كما
جُ
حرص على إنشاء حلقة من طل ب الدراسات العليا تتردد فيها آراؤه و مبادئه , وتواكب التغيير المذهل الذي هز
. كثيرا من الثوابت في المجتمع المريكي آنذاك
بنى ديوي عقيدته التربوية , بل حتى الفلسفية , على مفهوم الخبرة , وهو مرتكز جوهري في مجمل نتاجاته ,و
يقصد به ديوي عملية التفاعل بين ذات المتعلم و بين العوامل المحيطة به في بيئته سواء المادية منها أو
الجتماعية )3( فيكتسب من خل ل هذا التفاعل أساليب التفكير و المثل و العادات . و بالتالي فالتربية هي " ذلك
)4(
التكوين أو التنظيم الجديد الذي يزيد في معناها -أي الخبرة- و في المقدرة على توجيه مجرى الخبرة التالية "
بمعنى أن التربية مع ديوي تتولد من خل ل الحتكاك الدائم مع المحيط عن طريق سلسلة من الختبارات مما
. يمكنه من تنمية معارفه ومهاراته و اتجاهاته , و بالتالي تحقيق التكامل في شخصيته
و يؤكد ديوي على الصلة الوثيقة بين الخبرة و التجريب , فالتعلم في نظره ما هو إل ثمرة التجريب المستمر الذي
يمكن الطفل من التعاطي اليجابي مع المواقف العملية التي تعد ل من سلوكه و أفكاره . كما يشير إلى أن للخبرة
. جانبين : أحدهما هو التجربة ذاتها و الثاني هو الثر الناجم عن هذه التجربة
ولكي تكون الخبرة مفيدة و ذات مدلو ل تربوي ينبغي أن تقود إلى مزيد من الخبرات مما يضمن استمرارية
عملية التعلم وهو ما يتطلب مراعاة الخطوات التالية في كل موقف تعليمي : 1- أن يشعر المتعلم أنه يواجه
مشكلة جديدة في الموقف التعليمي 2- أن يبادر إلى تحديد المشكل و تعرف ابعاده مما قد يولد لديه إحساسا مبدئيا
بالحل 3- أن يستحضر الخبرات السابقة و المعلومات التي تمكنه من صوغ الفرضية من جديد 4- أن يضع
. فرضياته موضع الختبار فيقبل ما أثبتته التجربة و يرفض ما سواه
و بالرغم من التاثير الهائل الذي أحدثته فلسفة الخبرة في الفكر التربوي المعاصر إل أن هناك عددا من
المؤاخذات التي سجلت حولها أهمها تلك المتعلقة بخصوصية الفكر المريكي الذي يعتبره د.سعيد اسماعيل علي
جُ
نسيجا من الخامات المستوردة ! فقد ولدت النزعة الفلسفية البراغماتية في أمريكا منذ أواخر ق 91 من خل ل
جُ
تفاعل قوي بين الفكار التي حملها المهاجرون الوربيون و سمات البيئة الجديدة التي نشأوا فيها , و أهم هذه
السمات أن البيئة المريكية تؤمن بالنجاح الفردي و الرادة الحرة و المغامرة , فل مجا ل فيها لللقا ب أو
النسا ب أو روح الجبر المعطلة للرادة . لكنها في الن نفسه بيئة تفتقد لرصيد تراثي و حضاري تستمد منه
. مقوماتها و ملمحها. فكان البديل هو الندفاع إلى المام , و التقليل من جدوى الماضي في البناء الحضاري
ولهذا يصرح ديوي دون مواربة في كثير من مؤلفاته أنه ليس للتاريخ قيمة تربوية إل بمقدار ما يعرض من أوجه جُ
الحياة الجتماعية , وأن التخلص في الفكر و العمل من تراث الماضي الغامض - خاصة الديان التي يعتبرها
ميراثا ثقيل من الطقوس الغيبية - شرط أساس في التربية الحديثة !. وهذا الموقف يفسر لنا رفض ديوي تضمين
. المنهاج الدراسي مواد تعليمية تقع خارج خبرات الطل ب
1
2. إ ن النجاح الذي لقيته تعاليم جو ن ديوي في أمريكا ل يعني بتاتا التسليم بعالميتها ,ل ن في ذلك رفضا
وطرحا للحقائق التي ل يمكن إخضاعها للتجريب وفي مقدمتها الحقائق الغيبية .كما أ ن دعوة ديوي إلى اعتماد
التجريب في التربية , و إخضاع مجال ت الفكر النساني للمنهج العلمي يلغي خصائص النفس النسانية التي ل
لُ
!يمكن بأي حال أ ن تعامل كقطعة فحم أو حجر
لُ
)5(
و ليخلو حديث ديوي عن الخبرة كمفهوم مركزي في عقيدته التربوية من غموض يعزوه بعض الباحثين
إلى رفض ديوي التسليم بوجود حقائق ثابتة . فهو يرفض في كتابه " الديموقراطية و التربية" أ ن تتولى هذه
الخيرة حراسة التراث و القيم , أو العداد للمستقبل , بل يريدها سلسلة متصلة من الخبرا ت . فالخبرة عنده
وسيلة و غاية في ال ن نفسه ! وهنا ل تلبث أ ن تستفزنا المفارقة اللذعة بين موقفه الرافض لفعل التفلسف
المنعزل عن الحياة و الواقع ,ودعوته الصريحة إلى عزل الطفل عن قيمه و تراثه و عقيدته ليلقى به في أحضا ن
لُ
الخبرة ! يقول د. سعيد اسماعيل علي " هل معنى أ ن التربية ينبغي أ ن تأخذ مادتها من الخبرة الحاضرة أ ن
نتجاهل الماضي ؟ كل , ولقد وقعت يعض المدارس التقدمية في هذا الخطأ, و خيل إليهم أ ن فصل الحاضر عن
لُ
الماضي أمر ممكن . إ ن تراث الماضي يمدنا بوسيلة ناجحة حتى نستطيع فهم الحاضر " و يضيف " إ ن أهداف
لُ
التعليم توجد في المستقبل , وإ ن مواده المباشرة توجد في الخبرة الحاضرة , هذا القول يكو ن مبدأ سليما إذا مددنا
)6
)الخبرة الحاضرة ووصلناها بالماضي "
لقد أحدث جو ن ديوي انقلبا جوهريا في حقل التربية , وقد يبدو المر طبيعيا – هناك- في ظل عالم يتغير
بسرعة مذهلة, ويواجه تدفقا معرفيا و تكنولوجيا هائل ..لكنه – هنا- حرك سبا ت المشهد التربوي , و أتاح للنظم
التعليمية العربية إطارا فلسفيا وتربويا يمكنها من الفكاك من الجبرية المقيتة , ويعيد للعقل الفردي اعتباره و
. للرادة الحرة مكانتها
و إذا كنا نعيب على ديوي إيمانه المطلق بالعقل و العلم و ربطه للخبرا ت بالحياة الدنيا ..فبإمكاننا تكييف مقولته
! مع المعطى الديني/ الحضاري لتكو ن الخبرة قيمة مضافة تحقق سعادة الدارين
ــــــــــــــــــــــــــــــ
جون ديوي . د.أحمد فؤاد الوهواني . دار المعارف .ط 3 / 8791 . ص 14 : )1(
د.سعيد اسماعيل علي . فلسفات تربوية معاصرة .عالم المعرفة. عدد 891 / يونيو 5991 .ص 49 : )2(
د. عبد الرحمن صالح عبدال. المنهاج الدراسي ..أسسه و صلته بالنظرية التربوية السلمية.مركز الملك فيصل للبحوث و الدراسات : )3(
ط 1 6891 . ص 71
جون ديوي. الديموقراطية و التربية .ترجمة متى عقراوي و زكريا ميخائيل .لجنة التأليف القاوهرة.ط 2 / 4591. ص 97 : )4(
د.عبد الرحمن صالح عبد ال . مرجع سابق .ص 22- 32 : )5(
د.سعيد اسماعيل علي . مرجع سابق .ص 98 : )6(
2