1. ترجمة المام محمد بن عبد الوهاب .
شمعة على الطريق
م ّ المسلمون في القرن الثامن عشر بفترات ظلم وجهل ، جعلت من دينهم عرضة للبدع ، وطريق الضلل ؛ التي
ر
دسها المفسدون بين الناس تحت شعار الدين ، فكانت هذه الطريق طريق البدعة والضللة ، مسلكاً مهلكاً لكل من اتبعه .
..
ول بد من ضوء في هذا الظلم . . . ل بد من شمعة تنير الطريق ، ذلك طريق الذي يدعو إلى صراط مستقيم ، ل يأتيه
الباطل من بين يديه ول من خلفه .
وكان المام . . إمام الموحدين . . حامل كلمة ل إله إل ال ، محمد رسول ال . . كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو
الشمعة التي تضئ الطريق في طريق الضللت والبدع ، فاستبدلها الرجل خيراً ودعوة إلى الحق ، فح ّث الرجل بقلمه
د
كل من له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
كاتب دعا َ السلم في كل موضع ومكان . . . كاتبهم لدعوة الناس حكاماً ومحكومين لتصحيح المسيرة . . . مسيرة
ة
العقيدة ؛ لتصويب أفكار الناس ، ونفض غبار الجهل من على رؤوسهم .
كان الرجل بعيدً كل البعد عن بداية النهضة والعلم في أوربا ، ولكنه كأنما أحس أن البدع قد دخلت عقول المسلمين ،
ا
فأغفلتهم عن سلطان العقل وبأسه ودعوة قومهم إلى تغليب سلطان العقل والدين ، فرفع شعار التوحيد ، مصحوبً
ا
بضرورة العمل بكتاب ال وسنة رسوله .
لم ييأس الرجل ، ولم يك ّ . . ما تقاعس أبداً في سبيل محاربة البدع ، والدعوة الصادقة للجهاد . . جهاد النفس . .
ل
والجهاد في سبيل ال .
2. لقد أشعل شمعته ، وانطلق في طريق وع ٍ ، زاد في وعورته جهل القوم ، وتكالب العداء حبً في السلطة والتسلط .
ا ر
سنوات قلئل من الجهد والعمل ، هي جهد الرجل ، وكان المحصو ُ وافراً طيباً . . . إنها الشريعة السلمية وتطبيقها
ل
في شبه جزيرة العرب .
لقد توحدت الجزيرة على توحيد ال عز وجل ، وأ ّدت دعوة المام تأييداً مقنعً رائعاً ، فلقد ُلطَ الضوء ، وهربت
س ا ي
الخفافيش من جماعة إبليس إلى الظلم .
لقد أضاء الرجل شمعة في ظلم دامس .
ولم تكن الشمعة بعمل سهل ، ولم يتلل ضوؤها في الجزيرة بيسر وسهولة ، وإنما الذي جعل لنورها مذاقاً رائعاً هو
ظلم البدع الحالك ، وجهل القوم بدينهم . . . فلنوقد الشمعة على أول الطريق .
المولد والنشأة
في مدينة العينية من نجد بجزيرة العرب ، وفي العام الخامس عشر بعد المئة واللف ولد محمد بن عبد الوهاب ، في
بيت مملوء بالصلح والتقوى ، تتحرك في أرجائه آيات التقوى ، واستغفار الوابين .
في منزل الشيخ عبد الوهاب بن سليمان الوهيبي التميمي ، قاضي العينية ، جاء المولود بشرى لهله وذويه .
نشأ المام في كنف العلم والقرآن في مدينة العينية ، وكان أبوه خير معين له في درب الثقافة والتعليم مع مطلع حياته ،
فحفظ القرآن كعادة القوم في ذلك الزمان الذي عاشوه كأحكام وتشريع ، ولم يعيشوه بعيداً عن جو تشريعه وحدوده . .
تعلم محمد بن عبد الوهاب في مسقط رأسه quot; العينية quot; على أيدي أئمة المسلمين من الحنابلة ، ففي ُ ّاب هذه القرية حفظ
كت
3. القرآن قبل حلول السنة العاشرة من عمره . . . أ ّ ذهن هذا الذي يحفظ أشرف كتاب في عمر العاشرة ؟! إنه لدليل ذكاء
ي
حاد .
وتف ّه الرجل حتى روى أخوه سليمان قائلً في ذكائه :
ق
quot; كان أبي عبد الوهاب يتعجب من ذكاء أخي محمد ، فقد تعلم والدي منه ، واستفاد من شدة اطلعه ، ونفاذ بصيرته ،
فراح يقول : لقد استفدت منه كثيراً quot; .
كان الحج كفريضة وزيارة الرسول صلى ال عليه وسلم هو أول عمل يؤديه محمد ابن عبد الوهاب في شبابه ، وتعلم
على أيدي علماء الحرمين .
ولقد كان لعدد من العلماء السلفيين دور في تشكيل وبناء فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، ومنهم الشيخ محمد
المجموعي ، وبعض علماء العراق الخرين ، وقد هاجم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما رآه من المعاصي هناك ، وعاد
غاضباً .
ومن علماء الحساء كان للشيخ ابن عبد اللطيف ، وهو أحد علماء الحساء الحنابلة ، دور في بناء فكر الشيخ محمد بن
عبد الوهاب الديني .
وقد تدارس الشيخ كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم ؛ مما كان له الثر في انطلق فكره ، وحرية آرائه ، واجتهاده
العظيم .
نلحظ من كل ما سبق أن الشيخ لم يقتصر في علمه على دائرة ضيقة حوله تمثلت في بيئة علم ودين ، ولكن الشيخ أخذ
4. العلم في رحلته من علماء لهم اليد الطولى ، فالتقى بهم في المدينة المنورة والحساء والبصرة وغيرها من البلد التي
كانت في زمانه بمثابة رحلت شاسعة ، شاقة السفر .
ولذلك فلقد كانت نشأة الشيخ ل تح ّ على بدعة ، ول على ضللة ، وإنما الصدق كل الصدق وإخلص اللسان والقلب
ض
لكلمة ل إله إل ال محمد رسول ال .
اتجاهات الدعوة
اتجهت دعوة الشيخ إلى تخليص المسلمين من البدع والخرافات مثل الدعاء عند القبور والقباب ، والشجار والحجار ،
وتجريد الدين والعبادة وتوحيد ال عز وجل ، وجعله خالصاً ل وحده ، ليس في ذلك وساطة من أحد .
وقد كان كتاب quot; التوحيد quot; للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، أحد مؤلفاته التي ساق فيه الدلة من كتاب ال وسنة رسوله
صلى ال عليه وسلم .
لقد كان كتابه quot; التوحيد quot; وغيره من مؤلفاته بداية نضال لمصلح كبير ، أراد ال أن يكون من دعاة الصلح ، إصلح
العقيدة والدين ، وتخليص الناس من الجاهلية . . . من عقيدة فاسدة ، وأطماع متسلطة ، تتسم بسيادة القوي على الضعيف
، وكأن الناس والمجتمعات قد تحولوا إلى غابات تحكمها سباع . . .
وتضاءلت قوى الخير ، وجحافل اليمان ، وحل محّها الشر ، والتفكك الخلقي ؛ فاعتقد الناس من سيئات جاهليتهم بأن
ل
الجماد يشفي المرضى ، وأوشكت على أن تكون وثنية مق ّعة بالدين .
ن
وتكاسل الناس ، وراحوا في غفلة يقولون : هذا ما وجدنا عليها آباءنا ، وإنا على آثارهم مقتدون . . . سائرون ل نميز
الخبيث من الطيب .
5. كان على الشيخ ودعوته الصلحية محاربة كل هذه البدع والضللت، من خلل غزو هذا الفكر الضال بفكر إصلحي
ب ّاء .
ن
كان لفكر العلمة ابن تيمية دور عظيم في اتجاهات دعوة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد ر ّد – رحمه ال –
د
كثيراً اتجاهات ابن تيمية ، فقد قال في إحدى رساله مردداً ذلك على الناس :
quot; اعلم – رحمك ال – أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل :
الولى : العلم ، وهو معرفة ال ، ومعرفة نبيه ، ومعرفة دين السلم بالدلة quot; .
وهناك انعكس المعنى السابق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مؤلفاته التي امتلت بالدلة والبراهين من الكتاب
والسنة ، وبعض الجتهادات من الفروع لحمد بن حنبل .
quot; الثانية : العمل به quot; أي : بما تعلمنا من ديننا وأدائه المستقيم .
quot; الثالثة : الدعوة إليه quot; .
quot; الرابعة : الصبر على الذى فيه quot; .
إن هذه التجاهات الربع السابقة ، دعوة دينية خالصة ، لم يقصد بها مذهباً جديداً ، أو quot; إيديولوجية quot; غريبة على
السلم ، وإنما هي رسالة دينية خالصة ، تتسم بالحسم والحزم ، وتنقية الطريق السلمي من أشواك البدع
والضللت .
6. وقد تصدى للدعوة في مطلعها أناس لهم مطامع دنيوية ، يحكمهم الحسد والتسلط ، حبً في سياسة الناس ، وتوجيههم .
ا
اشتد عداء خصومه لدعوته ، وأطلقوا اسم quot; الوهابية quot; أو quot; الوهابيونquot; على دعوته ، ور ّده الوربيون ، ثم تداولته
د
ألسنة الناس .
راح الشيخ يقول : إن التوحيد هو عماد السلم الكبر ، وقد ضاع في زماننا هذا ، وتداخل به الفكر الفاسد . فهو – أي :
التوحيد – العتقاد بأن ال عز وجل هو خالق الدنيا ، وباسط شأنه عليها ، ورازق عباده ، وواضع قوانينه التي
تس ّرها ، والمشرع لها . . . ليس لمخلوق َ ِكة في ذلك ، فهو واحد أحد ، فرد صمد ، ليس في حاجة لمعين فهو
شر ي
المستعان . . . هو حاكم هذا الكون بما أنزل من تشريع وديانات ، وكتب ورسل ، وهو النافع ، بيده النفع والضر ل
شريك له . . . وإن كلمة ل إله إل ال : تنزه الخالق عز وجل عن وجود سلطة تسير الدنيا غيره هو عز وجل ، الخالق
البارئ المصور .
من ذلك كان قوله عز وجل بالتوجيه المباشر : ) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أل نعبد إل ال ول
نشرك به شيئا ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون ال فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ( ]آال عمران : 46[ .
لم يرفع الشيخ هذا الشعار من فراغ ، وإنما quot; التوحيد المطلق quot; النقي من كل شائبة هو في نص الكتابة ل اجتهاد
فيه . . . إن ال عز وجل يستجيب لنا دون وسيط . . . إن الستجابة مقرونة بصلحنا ، وإخلص نية توحيدنا .
كان في الوقت ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للتوحيد . . . كان في ذلك الوقت يحكم مصر محمد علي باشا ،
التركي الصل ، وكان هذا الرجل يتجه في إصلحه وحكمه إلى الحياة المادية، في حين أن الشيخ ابن عبد الوهاب اتجه
إلى العقيدة وحدها ، فأساس فكره هو العقيدة والروح ، وهما الجوهر الحقيقي إن صلحا صلح كل شئ ، وإن فسدا فسد
كل شئ .
7. وبذلك كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رئيس دين في نجد . . . دعوته خالصة ل وحده عز وجل .
وكان محمد علي رئيس حكم وسلطان في مصر ، تحكمه الحياة الدنيا ، وسلطان الحكم والتحكم ، والجلوس على قمة
السلطة في الحكم .
ولقد استعانت دعوة الشيخ ابن عبد الوهاب بأسانيد قوية أعطتها جانباً عظيماً من المناعة والقوة الفكرية ، مما ساهم في
انتشارها وتف ّقها على امتداد أراضي quot; الجزيرة quot; بل وخارج نطاق جزيرة العرب .
و
فالتاريخ يروي quot; أن أهل الطائف لما أسلموا كان لهم َ ِ ّة على اللت – أي : قبة ، أو كعبة – فأمر النبي صلى ال عليه
بني
وسلم بهدمها ، فطلبوا منه أن يترك هدمها شهراً حتى ل يصدموا نساءهم وصبيانهم ، حتى ُدخلوهم في دين ال أفواجً ،
ا ي
إل أن الرسول صلى ال عليه وسلم رفض ذلك ، وأنكره عليهم ، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب
وأمرهم بهدمها quot;]زعماء الصلح ، الستاذ أحمد أمين ص )61( [ .
وفي عهد عمر بن الخطاب رأي أن بعض الناس أخذ يرجع إلى عاداته الجاهلية القديمة ، فرآهم يأتون الشجرة التي بايع
رسول ال صلى ال عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان ، فيفضلون إقامة الصلة تحتها ، والستراحة عندها على سبيل
التبرك ، فأمر عمر بقطعها ، ف ُ ِ َتْ .
قطع
قال صلى ال عليه وسلم : quot; إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ، َل فل تتخذوا القبور مساجد ، فإني أنهاكم
أ
عن ذلك quot; .
بدأت الدعوة في لين ورفق من الشيخ بين أتباعه ومريديه وفي بلدته العينية ، إل أن الشيخ لق َ معارضة شديدة ، و َ ُرَ
كث ي
8. أعداء فك ِ ِ ممن أخذتهم العاطفة ، وأثارهم هدم شواخص القبور .
ره
ولكن الشيخ – رحمه ال – لم يهدأ ، بل استقرت العقيدة في قلبه ، ولن يمنعه من نشرها جور سلطان ، أو خلف
دنيوي ، مهما ابتغى من قصد أو ن ّة .
ي
متاعب الدعوة
ُضْ ُ ِدَ الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العينية ، واضطره ضغط أعدائه ومخالفيه أن يخرج منها إلى الدرعية ،
ا طه
مقر آل سعود . . . وهناك التقى بأمير الدرعية الشيخ محمد بن سعود ، فاستقبل الشيخ على الرحب والسعة ، وعرض
الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته على المير محمد بن سعود فقبلها ، وتعاهد الشيخان على حمل الدعوة على عاتقهم
والدفاع عنها ، والدعوة للدين الصحيح ، ومحاربة البدع ، ونشر كل ذلك في جميع أرجاء جزيرة العرب .
وكان أخطر شئ في هذا التفاق الذي ينم عن صدقه وج ّه . . . كان أخطر الشياء هو التفاق على نشر الدعوة باللسان
د
لمن يقبلها ، وبالسيف لمن يرفض دعوتهم .
واجتمع السيف واللسان في وقت واحد ، ورفع في ذلك شعار من الكتاب والسنة ، فيقول عز وجل ) ادع إلى سبيل ربك
بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (
]النحل : 521[ .
ودخلت الدعوة في إطار التنفيذ ، ونجحت الدعوة شيئً فشيئاً ، ودخل الناس في دعوة التوحيد ، ودخل أتباع الشيخ مكة ،
ا
وأرادوا أن يخلصوا الدين من البدع على الرغم مما في ذلك من خدش لمشاعر المسلمين وعاطفتهم .
هدم أتباع الشيخ كثيراً من القباب الثرية في مكة ، كقبة السيدة خديجة ، وقبة كانت على المكان الذي ُِ َ فيه النبي صلى
ولد
9. ال عليه وسلم ، وقبة مولد أبي بكر وعلي .
وفي المدينة رفعوا بعض الحلي والزينة الموضوعة على قبر رسول ال صلى ال عليه وسلم ، م ّا أثار غضب كثير من
م
الناس ، و ُ ّر غضبهم رغبة من هؤلء الناس في الحفاظ على معالم التاريخ ، ولن قبر الرسول رمز للعاطفة السلمية
بر
، وقوة دولة المسلمين .
ولم يهتم أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب بذلك ، بل اهتموا بعقيدتهم وإزالة البدع ، والرجوع إلى الصول في دينهم .
وكان الهتمام الكبر بأخلق الناس وعقيدتهم ، والشروع في تقويتها ، وترسيخها ، وإزالة الرواسب منها .
وفي وقت سيادة الدعوة بقيادة الوهابيين قّت المشاكل في مجتمع الجزيرة ، فانعدمت السرقات ، وحروب الفجور
ل
وشرب الخمور .
وأصبحت الطرق أكثر أمناً وأماناً ، بعد أن كانت مصدر متاعب للناس ، وحركتهم ، حيث السطو والسرقات قبل انتشار
الوهابيين ودعوتهم السمحة ، وأصبحت منطقة الجزيرة بمثابة منطقة جهاد بالنسبة للوهابيين ؛ مما أثار انتباه العلم
الخارجي لهذه الدعوة السلمية الخطيرة الجديدة في ذلك الوقت .
مع المسلمين خارج الجزيرة
ا
ُ ِعَ صوت الدعوة للتوحيد بقيادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وصاحبه المير محمد بن سعود ، ودوى الصوت عاليً
سم
خارج الجزيرة العربية والحجاز .
وكان مؤتمر المسلمين السنوي في الحج ميداناً عظيماً ، ومتابعة لعرض الدعوة على قيادات الحجاج ؛ لقناعهم
بالدعوة ، وعرضها عليهم ، فإذا قبلوها ، وفهموا مغزاها حق الفهم عادوا إلى بلدهم ، ونشروها في أوساط بلدهم
10. ومجتمعاتهم ، وهنا كان للحج دور عظيم في لقاء المفكرين السلميين بعضهم ببعض .
فعندما حضر المام السنوسي إلى مكة للحج ، والتقى بالوهابيين ، وسمع منهم ، واقتنع بفكرهم عاد على المغرب
العربي ، وأسس دعوته ، وطريقته الخاصة على أساس فكر الوهابيين ، وعلى منهجهم ، وكان هذا في أقصى مغرب
العالم السلمي .
ومن مشرقه في الهند ظهر زعيم وهابي هو quot; السيد أحمد quot; فقد جاء إلى مكة حاجاً في عام ) 2281م ( وآمن بالمذهب
الوهابي ، ونشر الدعوة في منطقة البنجاب في شمال الهند ، وأنشأ بها ما يشابه الدولة السلمية الوهابية ، وه ّد كل
د
مناطق شمال الهند .
والجالية الهندية الضخمة السلمية هي نتاج لدعوة هذا الرجل ، والتي بدأت تزداد وتكبر حتى قدر عددهم بعشرات
المليين من المسلمين .
ش ّ السيد أحمد في شمال الهند حربً عنيفة ضد البدع والخرافات ، وهاجم الوعاظ ورجال الدين ممن ينقادون إلى البدع
ا ن
والخرافات ، ويدعون إليها ، بل انه أعلن الجهاد ضد من لم يعتنق مذهبه ، ويرفع شعار التوحيد ، ويدعو لذلك دعوة
دينية خالصة كإخلص الموحدين .
وكان النجليز في ذلك الوقت له بالمرصاد هو وأتباعه ، وبذلوا جهدً شاقاً في السيطرة عليهم ، وإخضاعهم لها .
ا
وواجه الوهابيون من أتباع السيد احمد في شمال الهند هجوماً عنيفاً من المستعمر النجليزي ، إل أن العقيدة راسخة في
القلوب ، وبفكر راسخ في العقول .
ول تزال العقيدة والشعائر تقام في الهند ، وجاء المفكرون من رجال الدين من الهند ، وأسسوا جماعة لها شأن عظيم ،
11. وأصبح لهذه الجماعة مفكرون أثروا الفكر السلمي في القرن العشرين منهم الستاذ الكبير quot; أبو العلى المودودي quot; ]
3091 – 9791 م ، 1231 – 9931 هجرية[ وأتباعه ، ول يزالون يحملون أمانة الدعوة ونشرها في شبة الجزيرة
الهندية .
وفي أقصى الجنوب في اليمن تلقت أفكار المام الشوكاني المولود في سنة ) 2711 ( هجرية مع أفكار الشيخ محمد بن
عبد الوهاب ، والذي تأثر الرجل بمدرسة quot; ابن تيمية quot; العظيمة .
وآثر الشوكاني الجتهاد على التقليد ، وهاجم بناء القبور والشواخص عليها ، وتزيينها ، وتحسينها ، وقال : إنها مفاسد
يبكي لها السلم .
الهجوم على الدعوة
منذ أن جاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب الدرعية ، عاصمة السعوديين ، أتباع المام محمد بن سعود في عام ) 8511 (
هجرية ) 7471م ( ، وبسطوا نفوذهم على مكة والمدينة . . . منذ ذلك الحين شعرت الدولة العثمانية بالخطر يهددها ،
بل ويجعل منطقة الحجاز خارج نطاق سلطانها ونفوذها .
وتكمن خطورة ذلك في أن مكة والمدينة موطن الحرمين الشريفين ، وموطن الرسول صلى ال عليه وسلم ، حيث
المركز السلمي الممتاز للخليفة الجالس في الستانة ، عاصمة الدولة السلمية ، ورمز الخلفة في ذلك الوقت . . .
وإذا فقدت الدولة العثمانية هذه المنطقة – منطقة الحجاز – فقدت مركزها كله ، وروح سلطانها ونفوذها .
ولذلك أرسل السلطان العثماني quot; السلطان محمود quot; إلى محمد علي باشا حاكم مصر التركي الصل ، وكان في مركز
قوي في ذلك الوقت : أن يرسل جيوشه لمقاتلة وتأديب الوهابيين الخارجين عن طاعة السلطان .
12. وبدأت تبث دعاية مسمومة ضد المام ودعوته ، والنيل منها وتكفير أصحابها ، وحمل رجال الفكر السلمي والكتاب
في ذلك الوقت على الدعوة ، فخطبوا ، وكتبوا فيها كثيراً ، وكان ذلك بمثابة لفت النظار للدعوة الوهابية في أنحاء كثيرة
من العلم السلمي .
وأعد محمد علي باشا حملة قوية بقيادة ابنه المير طوسون ، وسار بحملته ، إل أن الوهابيين انتصروا على الحملة ،
وأعادوها .
وأحس السلطان العثماني بالخوف من ذلك ، نظراً لنه سبق حملت محمد علي حملت من الوالي في العراق ، إل أنها
فشلت جميعها .
ولما فشلت حملة المير طوسون أعد محمد علي باشا العدة ، وبقوة كبيرة ، وترأس بنفسه الحملة ، وحارب الوهابيين
بكل ما يملك من سلح حديث ، وانتصر عليهم ، وأعاد سيطرته على مكة والمدينة ، ومنطقة الحجاز .
ثم أكمل ابنه إبراهيم باشا هذا العمل بقيامه بالهجوم على الدعية في سبتمبر ) 8181م ( وحطم أغلب مبانيها ، ونكل بمن
لحق من الوهابيين ، وألقى إبراهيم باشا القبض على المير عبد ال بن سعود أمير الدرعية ، وأرسله أسيراً إلى الستانة
ليلقى حتفه هناك .
ولم تكن هذه الحملت العسكرية ونتائجها سبباً في القضاء على الدعوة الوهابية ، بل كانت أساساً متينً لنتشار هذا الفكر
ا
والثناء عليه ، فهو مفهوم التوحيد الخالص ، وقد بقيت الدعوة كامنة في النفوس يتدارسها علماء نجد والحجاز وغيرهم .
أراء المفكرين في دعوة الشيخ
13. ل شك في أن الدعوة الوهابية كان لها أنصارها، كما كان لها خصومها ، الذين اتهموا المام محمد بن عبد الوهاب بالغلو
في دعوته غلوً خرج بها عما عرف عن السلم من سماحة ويسر .
ا
هكذا كان زعمهم ، إل أن علماء السلم عقدوا مجالس لمناقشة الدعوة ، وقد أحدثت الحركة وفكرها حوارً فكرياً ما
ا
زال صداه يسمع في مجالس العلماء ، وقاعات الدرس في الجامعات ، والمدارس السلمية ، مما أحدث نوعً من
ا
الحوار الهائل ، واليقظة الفكرية في أرجاء العلم السلمي .
وقد أثبتت الدعوة الوهابية قدرتها على أن تكون مسرحاً فكرياً ضرورياً لكل مسلم ، وكانت الدعوة مصدراً ومنبعاً
استقت منه حركات الصلح الحديث ، وانتهى حكم إبراهيم باشا في الجزيرة العربية عام ) 0481م ( .
وقامت الدولة السعودية الثانية مؤكدة تمسكها بالدعوة الوهابية ونشرها ؛ ولما أسس عبد العزيز آل سعود دولته في أول
القرن الحالي كانت الدعوة الوهابية سلحه الفكري ، والوهابيون أنفسهم أشد أنصاره ، وأقوامهم تحمساً له .
وقد كان للمفكرين آراء هامة في الحركة الوهابية ، نبدؤها بمفكري السلم ، وعلى رأسهم المام محمد عبده ، فقد قال
ما معناه :
إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوة إصلح ، يتحمل المسؤولية من وقف أمام هذه الدعوة ؛ لمنع نشرها
وانتشارها بين عامة المسلمين .
وقد أيد إمام صنعاء المام الصنعاني دعوة الشيخ شعراً فقال :
14. يذكرني مسراك نجداً وأهله *** لقد زادني مسراك وجدً على وجد
ا
قفي واسألي عن عالم ح ّ سوحها *** به يهتدي من ض ّ عن منهج الرشد
ل ل
محمد الهادي لسنة أحمد *** فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
وقال الدكتور طه حسين :
quot; ل يستطيع الباحث عن الحياة في جزيرة العرب أن يهمل حركة عنيفة نشأت بها أثناء القرن الثامن عشر الميلدي ،
تلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب ، وأخطرته أنه يهتم بأمرها ، وأحدثت فيها آثارً خطيرة هان شأنها بعض
ا
الشئ ، ولكنه عاد فاشتد في هذه اليام ، وأخذ يؤثر ل في الجزيرة وحدها ، بل في علقتها بالمم الوربية ؛ هذه الحركة
هي الحركة الوهابية quot; .
ولم تمر حركة الشيخ مرور الكرام على العلماء والمفكرين ، بل لقد تناولها الكثير منهم ، فأثنى عباس محمود العقاد
الكاتب والمفكر السلمي على دعوة الشيخ ، وأشار كثيراً إلى مضمون كتابه quot; التوحيد quot; .
وقال عنه الستاذ أحمد أمين :
quot; أهم مسألة صقلت ذهن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دروسه ورحلته مسألة التوحيد ، التي هي عماد السلم ،
والتي تبلورت في ل إله إل ال ، والتي تميز السلم بها عما عداه ، والتي دعا إليها quot; محمد صلى ال عليه وسلم quot;
أصدق دعوة وأجرأها ، فل أصنام ول أوثان ن ول عبادة آباء وأجداد ول أحبار ول نحو ذلك ، ومن أجل هذا س ّى هو
م
وأتباعه أنفسهم quot; بالمو ّدين quot; أما اسم الوهابية فهو اسم أطلقه عليه خصومه quot; .
ح
مما سبق ا ّلعنا على أراء مفكرين عرب ومسلمين ، ولكن ماذا قال علماء الغرب عن دعوة المام محمد بن عبد الوهاب
ط
!
قال النمسوي ]جول صهيري[ في كتابه عن العقيدة والشريعة :
15. quot;وإذا أردنا أن بحث في علقة السلم السني بالحركة الوهابية نجد أن مما يستدعي انتباهنا خاصة من وجهة النظر
الخاصة بالتاريخ الديني ما يلي :
يجب على من ينصب نفسه للحكم على الحوادث السلمية أن يعتبر الوهابيين أنصاراً للديانة السلمية على الصورة
التي وضعها النبي صلى ال عليه وسلم والصحابة ، فغاية الوهابيين هي إعادة السلم كما كان quot; .
وقال مستشرق ألماني :
quot; كان هذا المصلح يتأ ّى بسيرة الرسول صلى ال عليه وسلم ، ويحذو حذوه ، وينحو نحوه ، في التفكير .
س
وكان الرسول صلى ال عليه وسلم قادراً على إلهاب نار الحماسة في قلوب أصحابه ، وعلى استثمار محبتهم العادية
للحرب في سبيل قضيته ، أما اعتقاد المسلمين فل يماثل الرسول صلى ال عليه وسلم في شئ quot; .
وبعد كل هذا ؛ وفوق كل شئ فإن المام الشيخ – رحمه ال – أراد جوهر العبادة . . . إخلصاً ل وحده . . . عقيدة
صافية ، ل يشوبها جهل البدع .
وقد ورد نفي هذه البدع في آيات عديدة توضح بشرية الرسول صلى ال عليه وسلم فيقول عز وجل ) قل سبحان ربي
هل كنت إل بشرا رسول ( ]السراء : 39[ .
وإذا كان السيد الرسول صلى ال عليه وسلم قد تجرد من مقولت البدع ، وجرد دعوته مما يحمل هذا المعنى ، فلقد
كانت توجيهات الوحي له ، وتوجيهه صلى ال عليه وسلم لصحابته كما أسلفنا في حاث هدم قبة عند أهل الطائف ، فإن
القرآن جاء بالمضمون في سياق اليات الكريمة فيقول عز وجل : ) قل ل أملك لنفسي نفعا ول ضرا إل ما شاء ال ولو
كنت أعلم الغيب لستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون ( ]العراف : 881[ .
16. وإذا كانت هذه هي مقولة الرسول صلى ال عليه وسلم بما أوحي إليه ، فمن من أصحاب الضرحة والمقامات يملك لنا
نفعاً أو ضراً لغيرنا ؟!
إننا نقوى بأعمالنا ، إن صلحت كانت خير شفيع لنا ، وإن فسدت فل مبدل لحكم ال . . . هذا الجوهر في ديننا . . إذ لم
يسا ِ بين الطيب والخبيث ، وبين الزبد وما ينفع الناس .
و
إن دعوة السماء لنا بالعمل الصالح ليس فيها مردود إل صلح حالنا نحن . . . إن الحرب التي شنها المام محمد بن عبد
الوهاب على البدع ، والضللت ، ومشاهد القبور لم يقصد بها شيئاً أو موقفاً شخصياً من أحد ، وإنما أراد الصلح في
جوهر ديننا ، فكيف يشفع صاحب ضريح لشارب خمر ، أو آكل ربا ، أو أي إنسان ل يقيم حدود ال في بيته وقومه ؟!
إن ديننا ليس توابيت محنطة ، أو أحجاراً كريمة نح ّ إليها كلما أحسسنا بالملل والفراغ ؛ ولكنه بناء خ ّر ، كل لبن ّ فيه
ه ي ج
دستور لسلوك من سلوكيات حياتنا ، تلك هي الخلصة .
والشيخ لم يحارب شخصاً ول مذهباً ، ول أراد أن يبني لنفسه مجدً وراء فكره ، وإنما كلمة قالها ، ودافع عنها حتى آخر
ا
يوم حياته .
وداع ً إمام الموحدين
ا
مات الرجل – رحمه ال – وظن أعداؤه أن العقيدة عادت لتهتز بعده ، ولكن ما تزال آراء الشيخ تهدي الضالين ، وتقنع
أدعياء الفلسفة والتصوف .
لقد عاشت أهدافه الست في قلوب أتباعه ، وممن اهتدوا بها من المسلمين في قلوبهم ، وأهدافه هي :
1 – إنكار الشرك بأنواعه صغيره وكبيره .
17. 2 – إنكار جميع ما يخالف التوحيد وخلوصه ، فينكر البدع ، وتعظيم القبور .
3 - ينكر التصوف الذي يخالف السلم .
4 – يحارب الرشوة بأنواعها ، أو التلعب في حكم ال سواء بوصية أو غيرها .
5 – يأمر بالمعروف .
6 – ينهي عن المنكر ، ويحاربه بالسيف والقلم.
هذه هي خلصة الدعوة ، دعوة إمام الموحدين .
عاش الرجل قرابة التسعين عاماً ، من عام )3071م( حتى عام )1971م( ، وم ّ على وفاته قرنان من الزمان ، ولكن
ر
لن تموت دعوته .
وقال الشاعر في رثائه :
ففاضت عيون واستهلت مدامع *** يخالطها مزج من الدم يهمع
بكاه ذوو الحاجات يوم فراقه *** وأهل الهدى والحق والدين أجمع
وداعً إمام المو ّدين . . وداعً شيخ المصلحين .
ا ح ا