SlideShare a Scribd company logo
1 of 6
1377315169545                                مقال مختار بعنوان 
 الشفاء 
        الشفاء نشرت سنة 1936 ... كان مصابًا بالسل، ولكنه سلٌّ غريب قاتل؛ لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره ويخنق حياته ويهد كيانه ... كان مصابًا بـ 
داء الحب
. خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره فأصبح يراه مقتضبًا مختصرًا: المسرّات كلها اختُصرت في لقاء مَن يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في إغضابه، واختصر كتاب حياته وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش حياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة! وأقهَمَ عن الطعام واجتواه() ، وأصبح خالفًا لا يشتهيه ولا يميل إليه، وإذا اضطر أكَلَ أكْلَ من قزَّت نفسه واكتفى بلُقيمات ما يقمن صلبه، كأنّ هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس حتى يحطم الجسم! وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهدًا، وإذا رنق النوم في عينيه () وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة ثم أفاق فَزِعًا، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغْرق في بحر عينيه! فهَزُلَ جسمه وخارت قواه وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهمًا رازمًا، ضعيفًا مُخَبْخَبًا () ، ولم يعد يعيش إلّا على المجاز؛ يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي وفكر ثاقب وقلب شاعر ... ولم يعد ينتفع بنفسه أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. وهكذا الحب أبدًا: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة! *  *  * وكان أمس، وكان يومًا من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء مُعصِفة، تُذَعذع() الأشجار، وتثير الأوراق وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا وههنا ... معتكرة تسفي التراب وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق () الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال  الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش () في العيون والمناخر والآذان وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق وبطون الخزائن وقلوب الساعات ... بل إنه -لدقته وخفته وسرعته- ليكاد يدخل في نفسه! وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بدًّا، فتحزّم وتدثّر وتعطّف بمعطفه الثخين، والْتَحَفَ فوقه بالمِمْطَر (المشمّع) يتقي به المطر، ولف شَملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها، وسار الهوينى لا يطيق حراكًا؛ لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء. *  *  * وكان وحده في طريق (الصُّلَيْخ) ، لم يجد سيارة يركبها ولا قومًا يصحبهم،  فنزل ماشيًا. وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل تعبث به الرياح، فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة تحركها يد لا تُرى فتُروِّح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطي على كل شيء ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه! وكانت الرياح زَعزَعًا () شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتًا وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضَعفه وأحماله ... ولَحَظَ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوّته، فجعل ينظر في عِطْفيه زهوًا وتيهًا، وجعل يتأمل دخيلته ويفكر في نفسه: مَن هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟ ... واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيرًا، فلم يبالِ بها ولم يحفلها، لأن زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبت في نفسه ... تنطح هذا الجبل وتريد أن تنسفه. فوقف يفكر: لماذا يضيّق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنسانًا جميلاً ظن أنه يحبه؟ لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومَن قال إنه لا يعيش إلّا بها؟ ماذا كان يصنع قبل أن يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم وأملأَ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلّا مرضًا عُضالاً هدَّ جسمَه ومحا مواهبه وفلَّ عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سدًّا من لحم ودم؟ يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم والقلق المستمر، ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟ أيوجب على نفسه الشحوب لأنها مورّدة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزل لمجرد أنها صحيحة بضّة؟ ... يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلّا في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع  من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟ وبدا له الحب كأسخف شيء يكون! *  *  * وكانت الدنيا قد استُطير لبها وجُنَّ جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية تضرب وجهه... فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه وتبرق عيناه ببريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب ... وانتفض وضرب الفضاء بقبضتيه، وصاح صيحة الفرح: قد شُفيت! ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة ... لم تعد محرَّمة عليه، لأنه لم يعد يحب! *  *  *
alshiffa
alshiffa
alshiffa
alshiffa
alshiffa

More Related Content

Viewers also liked

Mano miestas šilute
Mano miestas šiluteMano miestas šilute
Mano miestas šilute
iingrida1996
 
Upsr canang 2 k 1 2010
Upsr canang 2 k 1  2010Upsr canang 2 k 1  2010
Upsr canang 2 k 1 2010
SELVAM PERUMAL
 
Presentation1
Presentation1Presentation1
Presentation1
kitoyep6
 
Hadist ibadah mahdlah
Hadist ibadah mahdlahHadist ibadah mahdlah
Hadist ibadah mahdlah
topmusbis
 
الربو عند الأطفال
الربو عند الأطفالالربو عند الأطفال
الربو عند الأطفال
hayaahealth
 
سورة النور من آية41 الى 46
سورة النور من آية41 الى 46سورة النور من آية41 الى 46
سورة النور من آية41 الى 46
koko shouk
 
No175 newslettr daily-16_7_2013
No175 newslettr daily-16_7_2013No175 newslettr daily-16_7_2013
No175 newslettr daily-16_7_2013
e-syrianews
 
كيف تلقى الله بجبال من الحسنات
كيف تلقى الله بجبال من الحسناتكيف تلقى الله بجبال من الحسنات
كيف تلقى الله بجبال من الحسنات
Abdullah Assaf
 

Viewers also liked (18)

المشاركة في الملفات والمجلدات
المشاركة في الملفات والمجلداتالمشاركة في الملفات والمجلدات
المشاركة في الملفات والمجلدات
 
Mano miestas šilute
Mano miestas šiluteMano miestas šilute
Mano miestas šilute
 
Upsr canang 2 k 1 2010
Upsr canang 2 k 1  2010Upsr canang 2 k 1  2010
Upsr canang 2 k 1 2010
 
Presentation1
Presentation1Presentation1
Presentation1
 
Ds1
Ds1Ds1
Ds1
 
Pero ¿Qué se Vota en el Parlamento Europeo?
Pero ¿Qué se Vota en el Parlamento Europeo?Pero ¿Qué se Vota en el Parlamento Europeo?
Pero ¿Qué se Vota en el Parlamento Europeo?
 
VU KD'10 Naujienlaiškis 02-17
VU KD'10 Naujienlaiškis 02-17VU KD'10 Naujienlaiškis 02-17
VU KD'10 Naujienlaiškis 02-17
 
تقرير يوميات نسوية لشهر ديسمبر2012
تقرير يوميات نسوية لشهر ديسمبر2012تقرير يوميات نسوية لشهر ديسمبر2012
تقرير يوميات نسوية لشهر ديسمبر2012
 
Hadist ibadah mahdlah
Hadist ibadah mahdlahHadist ibadah mahdlah
Hadist ibadah mahdlah
 
الربو عند الأطفال
الربو عند الأطفالالربو عند الأطفال
الربو عند الأطفال
 
سورة النور من آية41 الى 46
سورة النور من آية41 الى 46سورة النور من آية41 الى 46
سورة النور من آية41 الى 46
 
Drug
DrugDrug
Drug
 
Mmbuilder
MmbuilderMmbuilder
Mmbuilder
 
No175 newslettr daily-16_7_2013
No175 newslettr daily-16_7_2013No175 newslettr daily-16_7_2013
No175 newslettr daily-16_7_2013
 
سيرة ذاتية لميثاق الاسلام الداودي1
سيرة ذاتية لميثاق الاسلام الداودي1 سيرة ذاتية لميثاق الاسلام الداودي1
سيرة ذاتية لميثاق الاسلام الداودي1
 
الإلتهابات النسائية
الإلتهابات النسائيةالإلتهابات النسائية
الإلتهابات النسائية
 
مقال حول جمعية الفنانات المغاربيات
مقال حول جمعية الفنانات المغاربياتمقال حول جمعية الفنانات المغاربيات
مقال حول جمعية الفنانات المغاربيات
 
كيف تلقى الله بجبال من الحسنات
كيف تلقى الله بجبال من الحسناتكيف تلقى الله بجبال من الحسنات
كيف تلقى الله بجبال من الحسنات
 

Recently uploaded

الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفيةالاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
NawalDahmani
 

Recently uploaded (10)

الأركان التربوية بأقسام التعليم الأولي و الابتدائي.ppt
الأركان التربوية بأقسام التعليم الأولي و الابتدائي.pptالأركان التربوية بأقسام التعليم الأولي و الابتدائي.ppt
الأركان التربوية بأقسام التعليم الأولي و الابتدائي.ppt
 
IntegratedMulti TrophicAquaculture Systems Aquaculture experts Forum.pdf
IntegratedMulti TrophicAquaculture Systems Aquaculture experts Forum.pdfIntegratedMulti TrophicAquaculture Systems Aquaculture experts Forum.pdf
IntegratedMulti TrophicAquaculture Systems Aquaculture experts Forum.pdf
 
64617773-قلق-الامتحان.ppt قلق الامتحاااااان
64617773-قلق-الامتحان.ppt قلق الامتحاااااان64617773-قلق-الامتحان.ppt قلق الامتحاااااان
64617773-قلق-الامتحان.ppt قلق الامتحاااااان
 
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة علي وجوب الحجاب والجلباب علي المرأة واستحباب ...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة علي وجوب الحجاب والجلباب علي المرأة واستحباب ...الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة علي وجوب الحجاب والجلباب علي المرأة واستحباب ...
الكامل في اتفاق الصحابة والأئمة علي وجوب الحجاب والجلباب علي المرأة واستحباب ...
 
الشوق إلى حجّ بيت الله الحرام (فضائل الحج)
الشوق إلى حجّ بيت الله الحرام (فضائل الحج)الشوق إلى حجّ بيت الله الحرام (فضائل الحج)
الشوق إلى حجّ بيت الله الحرام (فضائل الحج)
 
تێکچوونا خەموکییا مەزن ژخەموکی چیە و خەموکی چەوا پەیدا دبیت ، چارەسەریا خەموک...
تێکچوونا خەموکییا مەزن ژخەموکی چیە و خەموکی چەوا پەیدا دبیت ، چارەسەریا خەموک...تێکچوونا خەموکییا مەزن ژخەموکی چیە و خەموکی چەوا پەیدا دبیت ، چارەسەریا خەموک...
تێکچوونا خەموکییا مەزن ژخەموکی چیە و خەموکی چەوا پەیدا دبیت ، چارەسەریا خەموک...
 
الكامل في أسانيد وتصحيح حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر من ( 15 ) طريقا عن...
الكامل في أسانيد وتصحيح حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر من ( 15 ) طريقا عن...الكامل في أسانيد وتصحيح حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر من ( 15 ) طريقا عن...
الكامل في أسانيد وتصحيح حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر من ( 15 ) طريقا عن...
 
واستعمال الموارد الرقمية في التعليم .ppt
واستعمال الموارد الرقمية في التعليم .pptواستعمال الموارد الرقمية في التعليم .ppt
واستعمال الموارد الرقمية في التعليم .ppt
 
الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفيةالاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
الاستعداد للامتحانات.pptx عرض حولك كيفية
 
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdfالصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
الصف الثاني الاعدادي - العلوم -الموجات.pdf
 

alshiffa

  • 1. 1377315169545 مقال مختار بعنوان الشفاء الشفاء نشرت سنة 1936 ... كان مصابًا بالسل، ولكنه سلٌّ غريب قاتل؛ لم يكن في الرئة ولا في الأمعاء، بل كان في النفس، في الفكر، فكان يعطل شعوره وتفكيره ويخنق حياته ويهد كيانه ... كان مصابًا بـ داء الحب . خمدت جذوة قريحته، وتعطلت ملكاته كلها، وضاع ذكاؤه وبادت فطنته، وضاق كل شيء في نظره فأصبح يراه مقتضبًا مختصرًا: المسرّات كلها اختُصرت في لقاء مَن يحب، والآلام في فراقه، والواجبات كلها في إرضائه، والمحرمات كلها في إغضابه، واختصر كتاب حياته وطمس اسمه وعنوانه، فكان حاشية صغيرة على هامش حياة التي يحبها، واختصرت الدنيا الطويلة العريضة المليئة بالفضائل والأمجاد، الفياضة بالجمال والحقيقة والخير، فكانت كلها هذه المرأة! وأقهَمَ عن الطعام واجتواه() ، وأصبح خالفًا لا يشتهيه ولا يميل إليه، وإذا اضطر أكَلَ أكْلَ من قزَّت نفسه واكتفى بلُقيمات ما يقمن صلبه، كأنّ هذا المرض لا يرضيه ما يفسد من النفس حتى يحطم الجسم! وأصابه الأرق، فأمسى يبيت ليله سهران مسهدًا، وإذا رنق النوم في عينيه () وغلبته حاجة جسمه خفق خفقة ثم أفاق فَزِعًا، يفكر في هذا الإنسان، يخاف أن يطير مع الأنفاس، أو يسيل مع الدمع، أو يغْرق في بحر عينيه! فهَزُلَ جسمه وخارت قواه وتراخت مفاصله، وشحب وجهه، وآض ساهمًا رازمًا، ضعيفًا مُخَبْخَبًا () ، ولم يعد يعيش إلّا على المجاز؛ يعيش بذكرى أيامه الماضية قبل أن يصيبه هذا السل، أيام كان ذا جسم قوي وفكر ثاقب وقلب شاعر ... ولم يعد ينتفع بنفسه أو ينتفع بها الناس بشيء، لأنه أصبح لا لنفسه ولا للناس ولا للحياة، ولكن لإنسان واحد يحبه. وهكذا الحب أبدًا: مرض في الجسم، وضيق في الفكر، وفرار من حومة الحياة! * * * وكان أمس، وكان يومًا من أيام الخريف في بغداد، هبت فيه الرياح خرقاء هوجاء مُعصِفة، تُذَعذع() الأشجار، وتثير الأوراق وتكسر الأغصان، وتمتد إلى كل شيء في الطبيعة فتعيث فيه وتعبث به، وتدفعه من ههنا وههنا ... معتكرة تسفي التراب وتحمل هذا الغبار الناعم الدقيق () الذي يملأ الجو ويخالط كل ذرة من ذرات الهواء، وينتشر في السماء كمثل السحاب، يمنع الشمس ويحجب المرئيات، ولا يمنع منه شيء، فهو يدخل الغرف مهما أحكمت إغلاق الباب وضبطت النوافذ، وينفذ من خلال الثياب مهما كانت حصيفة محكمة، ويخش () في العيون والمناخر والآذان وفي أصول الشعر، ويمر إلى أجواف الصناديق وبطون الخزائن وقلوب الساعات ... بل إنه -لدقته وخفته وسرعته- ليكاد يدخل في نفسه! وكان على صاحبنا أن يغدو إلى عمله في بغداد، وكان ينزل ضاحية من ضواحيها، فتردد ثم لم يجد من الأمر بدًّا، فتحزّم وتدثّر وتعطّف بمعطفه الثخين، والْتَحَفَ فوقه بالمِمْطَر (المشمّع) يتقي به المطر، ولف شَملة على عنقه، ولبس قفازيه، وأخذ عصاه فتوكأ عليها، وسار الهوينى لا يطيق حراكًا؛ لكثرة ما يحمل من ثياب، ولطول الطريق وشدة الرياح، وما به من الضعف والإعياء. * * * وكان وحده في طريق (الصُّلَيْخ) ، لم يجد سيارة يركبها ولا قومًا يصحبهم، فنزل ماشيًا. وكان الطريق طويلاً على طرفيه النخيل تعبث به الرياح، فتميل بجذوعه وتحرك أغصانه فتفرقها ثم تجمعها، فتبدو كأنما هي مراوح ضخمة تحركها يد لا تُرى فتُروِّح بها على وجه الدنيا، وكانت تظهر أوائلها وتغيب أواخرها في هذا السحاب الترابي الذي يغطي على كل شيء ويصل الأرض بالسماء، فترى الطريق كأنه صاعد إليها، أو تراها كأنها هابطة إليه! وكانت الرياح زَعزَعًا () شديدة، تميل بالأشجار وتعصف بالغصون، ولم يكن ثابتًا وسط الرياح إلا صاحبنا بعصاه وضَعفه وأحماله ... ولَحَظَ ذلك من نفسه، وأعجبه أن يلحظه ويفكر فيه، وعراه شيء من الاعتداد بالنفس، وازداد حتى ملأه الشعور بقوّته، فجعل ينظر في عِطْفيه زهوًا وتيهًا، وجعل يتأمل دخيلته ويفكر في نفسه: مَن هو؟ وما هذه الحياة التي يحياها؟ ... واشتدت الرياح وعزفت، ثم صفرت صفيرًا، فلم يبالِ بها ولم يحفلها، لأن زوبعة أخرى أشد هولاً قد هبت في نفسه ... تنطح هذا الجبل وتريد أن تنسفه. فوقف يفكر: لماذا يضيّق حياته بيده؟ لماذا يعطل فكره وملكاته؟ أكل ذلك لأنه وجد إنسانًا جميلاً ظن أنه يحبه؟ لتكن جميلة أو قبيحة، ما شأنه هو بها؟ ومَن قال إنه لا يعيش إلّا بها؟ ماذا كان يصنع قبل أن يعرفها؟ ألم يكن يعيش؟ ألم تكن حياته أجمل وأحفل بالعظائم وأملأَ بالفضائل؟ هل كان هذا الحب إلّا مرضًا عُضالاً هدَّ جسمَه ومحا مواهبه وفلَّ عزيمته، وأقام بينه وبين الحياة سدًّا من لحم ودم؟ يا للسخف! أيحكم على نفسه بالألم الدائم والقلق المستمر، ليحظى ذلك الإنسان بالسرور والاطمئنان؟ أيوجب على نفسه الشحوب لأنها مورّدة الوجنتين؟ أيختار المرض والهزل لمجرد أنها صحيحة بضّة؟ ... يا للخجل! ألا يرى الدنيا إلّا في عيني هذا الإنسان؟ أيقنع من السعادة والمجد والعلم والبطولة والدفء والنور والحياة بابتسامة واحدة؟ وبدا له الحب كأسخف شيء يكون! * * * وكانت الدنيا قد استُطير لبها وجُنَّ جنونها، وهطلت الأمطار سريعة قوية تضرب وجهه... فأحس بالقوة والنشاط، وجعل ينشق ملء رئتيه وتبرق عيناه ببريق العزم، ثم ألقى عصاه وشملته ونزع عنه هذه الأحمال من الثياب ... وانتفض وضرب الفضاء بقبضتيه، وصاح صيحة الفرح: قد شُفيت! ثم انطلق نحو الدنيا الواسعة ... لم تعد محرَّمة عليه، لأنه لم يعد يحب! * * *