1. هل بدأ المشروع اإليراني في اإلنحصار
دمحم عياش الكبيسي
يستند المشروع اإليراني إلى مجموعة من المقوالت المركبة والمعقدة، حيث يمتزج التعصب الديني
الطائفي بالنزعة القومية ال عنصرية، كما تمتزج الرغبة بنشر التشيع الصفوي وهو ما أطلقوا عليه
«تصدير الثورة» بالرغبة الثأرية االنتقامية من كل األعداء التاريخيين من أحفاد الراشدين واألمويين
والعباسيين والعثمانيين، إلى الوهابيين والبعثيين والصداميين!!
وحينما يعبر اإليرانيون عن كل هذه ال مقوالت في مواقفهم السياسية وخطاباتهم التعبوية فإنهم يقعون في
حالة من التناقض تستعصي على الفهم حتى من حلفائهم وأصدقائهم، فهم مثال يكفرون البعثيين العراقيين
إلى حد «االجتثاث» لكنهم يتحالفون مع البعثيين السوريين إلى حد التبني، كما أنهم يدعمون المقاومة
الفلسطينية و «اللبنانية» في مواجهة المشروع الصهيوني األميركي بيد أنهم في العراق يدعمون
المشروع الصهيوني -األميركي في مواجهة المقاومة العراقية!!
في االنفتاح على كل الديانات األخرى يستندون إلى مقولة «إن لم يكن أخا لك في الدين فنظير لك في
الخلق» وفي استئصال السنة ومحاربة العرب يستندون إلى مقولة «يا لثارات الحسين».
نظريتهم في الحكم تستند إلى مقولة «اإلمام المعصوم» فاإلمامة منصب إلهي كالنبوة، وعليه فإن خالفة
أبي بكر وعمر كانت باطلة وغير شرعية؛ ألنها كانت بالشورى وليست بالنص، وأن النص قد حصر
اإلمامة في األئمة االثني عشر المعصومين، لكنهم اليوم يمنحون الشرعية الكاملة ألحمدي نجاد في إيران
والمالكي في العراق وبشار في سوريا!!
لقد اتضح أن هذه المقوالت ال تمثل قيما دينية حقيقية بقدر ما تمثل مرتكزات سياسية وأدوات تضمن لهم
التحكم في عواطف الجماهير ودفعها باتجاه األهداف المرسومة وفق فلسفة أخرى لم يحن الوقت بعد
لطرحها والتبشير بها.
مع كل هذا التعقيد والضبابية أو الباطنية فإن المشروع اإليراني حقق قدرا كبيرا من التقدم وقد ال يكون
هذا بإمكانياته الذاتية المجردة بل بمجموعة من الفرص التي أتيحت له ولم تتح لغيره ومنها:
أوال: تبني المقاومة ا لفلسطينية في وقت تخلي العرب عنها، وكان هذا وفق سياسة مدروسة، فلم يجد
الفلسطينيون من يستضيف مكاتبهم السياسية إال بشار في سوريا وحسن نصر هللا في لبنان!!
وكانت هذه خطيئة عربية كبيرة زادت من حنق الشارع العربي على حكوماته وبالمقدار نفسه زاد من
تقبله للمشروع اإليراني.
ثانيا: تحالف اإليرانيين مع المشروع الصهيوني -األميركي في العراق، الذي كان يهدف إلى تدمير الدولة
العراقية بكل مؤسساتها، ومن ثم عزل العراق كليا عن عمقه العربي، ساعد في هذا قدرة اإليرانيين على
2. التحكم بالطائفة الشيعية في العراق من خالل المرجعيات الدينية والسياسية، وقدرتهم على التنسيق مع
الكرد بدافع العداء المشترك لصدام.
وال شك أن الجمع بين الفرصتين األولى والثانية بكل تفاصيلهما وتعقيداتهما يمثل قدرة فائقة على بناء
النظريات المركبة، وربما يمثل في المقابل عجزا عربيا في فهم مثل هذه النظريات وتحليلها، حتى اختصر
أحد المثقفين العرب المشهورين كل المشكلة بجملة واحدة (لقد أخطأت إيران في العراق، وأصابت في
فلسطين) هذه الطريقة البدائية في التحليل ربما كانت فرصة أخرى لتمدد المشروع اإليراني.
اليوم تغيرت الصورة وبشكل سريع وغير متوقع، وبات المشروع اإليراني يفقد الكثير من مكتسباته، وال
شك أن الثورة السورية هي التي رسمت النقطة المفصلية لتحول الخط البياني لهذا المشروع من الصعود
إلى النزول، ومن التمدد إلى االنكفاء.
لقد كان بإمكان القيادة اإليرانية أن تحقق كل ما يجول في ذهنها من طموحات وأهداف، وبكلفة أقل بكثير
مما بذلته لحد اآل ن، فقد كان يكفيها أن تستخدم الموارد الضخمة والمتنوعة للدولة التي ال تقاس بها
موارد أية دولة أخرى في المنطقة لبناء نموذج مقنع يلبي احتياجات المواطن اإليراني أوال ثم يدعو الدول
المحيطة والقريبة لصناعة نوع من االستقرار األمني والسياسي يسهم في تحويل المنطقة إلى صورة
أفضل بكثير من الصورة المأساوية والمخجلة التي تعيشها اليوم.
إن الموارد الطبيعية اإليرانية أكبر بكثير من الموارد الطبيعية لتركيا، لكن إيران سخرت جل مواردها في
مشروعها التوسعي «تصدير الثورة»، وراحت تغدق ثروات الشعب اإليراني على أدواتها التوسعية كحزب
هللا في لبنان والحوثيين في اليمن والمليشيات الطائفية في العراق وبعض الحركات القلقة والمضطربة في
الخليج والشمال اإلفريقي، وكل هذا التبذير للموارد اإليرانية لم يجن منه اإليرانيون سوى الكم الهائل من
العداوات حتى بات اإليرانيون يشعرون وكأنهم يصنعون من حولهم وبأموالهم بحرا ال حدود له من
الكراهية، حتى باتت إيران تنافس إسرائيل في عزلتها السياسية والثقافية، بل إن الكثير من العراقيين
والسوريين واللبنانيين وربما كل الجزيرة والخليج العربي يشعرون بالخوف والقلق من إيران أكثر بكثير
من إسرائيل.
هذه الكراهية اشترتها القيادة اإليرانية بثمن باهظ مما كان له انعكاسه على المستوى المعيشي والخدمي
للمواطن اإليراني، حتى أصبح اإليرانيون يخرجون للبحث عن العمل في الدول المجاورة وبأبخس األجور،
وقد كانوا ينتظرون من «الدولة اإلسالمية» السائرة على خط «األئمة المعصومين»أن تحقق لهم قدرا من
الك رامة اآلدمية والحلول المناسبة للمعاناة اليومية، وقد كنت أقول لبعض الكفاءات الشيعية وهم يقدمون
أوراق العمل أو اللجوء ألوروبا أو أميركيا:ماذا يعني أنكم تفضلون هذه الدول «الكافرة» على «جمهورية
إيران اإلسالمية»؟ وكم تحتاج التجربة الثورية من الوقت لتنفيذ وعودها وقد مضى عليها أكثر من ثالثين
سنة؟!ثم كم سيحتاج حزب الدعوة من الوقت لبناء العراق الجديد وهو يحاول أن يستنسخ التجربة
اإليرانية؟
3. على النقيض من هذه التجربة كانت التجربة التركية، حيث ركزت حكومة العدالة والتنمية على تطوير
البنى التحتية للدولة وتوفير كل مستلزمات التنمية الذاتية، حتى حققت قفزاتها التي أذهلت جميع المراقبين
والمحللين، وقد عايشت جانبا من االنتخابات األخيرة فوجدت الفئات المختلفة للشعب التركي تتفق على
دعم العدالة والتنمية حتى من قبل بعض العلمانيين وهم الخصوم التقليديون للعدالة والتنمية.
على الصعيد الخارجي لم تدفع تركيا فاتورة تذكر في مقابل صناعة المقبولية لسياساتها وعالقاتها
المتشعبة، واكتفت بصناعة النموذج الذي صار أداة للجذب وعنوانا للتأسي واالقتداء، كما نجحت
الدبلوماسية التركية في إيجاد حالة من التوازن بين عالقاتها األوروبية والغربية وكونها جزءا من الحلف
األطلسي وبين عالقاتها المشرقية مع العالم العربي واإلسالمي.
إن إيران كانت تعتمد على الرشاوى السياسية الباهظة من أجل تحسين صورتها، ولكن سرعان ما انقلبت
تلك الرشاوى إلى عبء أخالقي وسياسي ثقيل، أما تركيا فقد رأت أن تحسين صورتها إقليميا وعالميا إنما
يكون بقدرتها على صناعة النموذج الناجح لدولة العدالة والتنمية، وقد كان الفارق بين السياستين أشبه
بالفارق بين من يعمل بإخالص وبين من يعمل سمعة ورياء، وإذا كان اإلسالم يعلمنا «إنما األعمال
بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» وأن الرياء محبط للعمل، فال شك أن خطورة الرياء في إحباط العمل
على مستوى الدولة سيكون أكبر بكثير من إحباط العمل على مستوى األفراد.
إن القيادة اإليرانية مدعوة اليوم لتقديم كشف حساب لشعبها عن كل تلك الميزانيات الضخمة التي أنفقتها
خالل أكثر من ثالثين سنة على مغامرات خارجية غير محسوبة وغير مدروسة، وكان ذلك كله من قوت
والمحرومين. الفقراء
ليس ذلك فقط، بل هناك فاتورة أخرى تتحملها الطائفة الشيعية أينما كانت وهي فاتورة أخالقية، حيث
وقف الممثل األعلى للطائفة وهو الولي الفقيه ليدعم كل جرائم األسد في سوريا والمالكي في العراق،
ويمنحها الغطاء الشرعي، وهي جرائم تنتهك كل القيم الدينية واإلنسانية، فلمصلحة من تربط الطائفة
الشيعية مصيرها وسمعتها بمصير بشار والمالكي وسمعتهما؟
إن الشيعة كطائفة، وإيران كدولة وشعب وتاريخ، هم أولى بصناعة الربيع الذي يخلصهم من هذه األعباء
الثقيلة سياسيا واقتصاديا وأخالقيا.