9. رواية توثيقية!!
ال اأعرف اإن كان ثمة ما ي�سمى: رواية توثيقية!
لكني اأعتقد اأن التخييل هو الف�ساء الذي تزهر فيه الروايات.
والتوثيق عك�س ذلك متاما. اأي اأن الدروب حتت تاثريه تكون
أ ً
أ
مر�سومة قبل البدء بالكتابة! بالتايل فالعامل التخييلي، االجمل
يف ال�رسد براأيي، هو يف التوثيق حمدد مب�سارب ال يحيد عنها،
ّ
ؤ ً
بنهايات منجزة �سلفا، وب�سخ�سيات معروفة وموطرة خارج
تطور لغوي، ينبغي اأن يكون حراً، وخارج تنويعات ال�رسد
ّ
واحلكاية يعبث بهما اخليال اخلالق.
10. ً أ
لكن االمر كان هنا خمتلفا!
ّ
الن التخييل �سيعمل، كالعادة، على يل الق�سة احلقيقية. أ
مبعنى اآخر �سيعمل على حقن ما حدث بنكهة ما مل يحدث،
بالتايل �ستبقى التجارب، املتاهات، احليوات، كل ما كان هناك
ومل يكت�سف، ومل يعرف عنه، قيد التخييل فح�سب. وهذا ما
مل اأرده.
كان علي اإذاً اأن اأ�سحي بروعة التخييل الروائي، الذي ما
ّ
زلت من اأ�سد املتحم�سني له، يف مقابل حفظ احلقيقة، اأو لنقل،
ّ
مبعنى اأدق، حفظ التجربة.
ومل َ رواية؟!
رمبا الن ما حدث هناك مل يحدث اإال لتكتب عنه أ
الروايات.
روزا يا�سني ح�سن
11. مبثابة مقدمة
أ
وا�سري غدا له ال�سجن حلدا
فهو حي يف حالة امللحود
البحرتي
12. (اإين اأحت�سن يف هذه القلعة، واأكابد هذا احل�سار، ال لكي
اأر�سي �سلطانا اأو اأحمي اإمارة، اإين هنا كي ال يقال يف قادم
ً
االيام اجتاح تيمورلنك هذه البالد ومل يوجد من يقاوم..) أ
مقولة اأطلقها اأزدار اآمر قلعة دم�سق: ال�سخ�سية املوثرة يف
ؤ
م�رسحية �سعد اهلل ونو�س “منمنمات تاريخية”.
�ستتلخ�س يف هذه املقولة، براأيي، فكرة اأ�سا�سية قد تنظم
ن�سقا كامال من حيوات الدونكي�سوتيني الفدائيني، حيث ً ً
آ
يندرج املئات ورمبا االالف ممن وقفوا يف وجه الطغاة على
مر الزمن، الذين كانوا باعتقادي موقنني اأن الطريق اإىل النهاية ّ
و حبال قريب، واأن ما ينتظرهم اإما اأقبية ال�سجون املظلمة اأ
امل�سانق اأو الر�سا�س الغادر.
جتربة املعار�سة ال�سيا�سية يف بالد الديكتاتوريات، ومبختلف
اأطيافها، جزء ال يتجزاأ من هذا الن�سق، �سواء بعملها ال�رسي اأو
0
13. أ
العلني، هي التي عملت على تاكيد مقولة بري�ست: فغداً لن
ً ً
يقولوا كان زمنا �سعبا، بل �سيقولون ملاذا �سمت ال�سعراء؟.
التجربة الن�سائية بني �سفوف املعار�سة توكد اأي�سا على
ً ؤ
ذلك، وما جتربتها يف املعتقالت اإال ان�سحاب الجهار ال�سوت
إ
أ
يف زمن ال�سمت، حني تتحول االنوثة، مبعناها التاريخي
ّ
النظري واملكر�س، لت�سبح قادرة على الوقوف يف وجه الطغيان
ّ
وظلمة املعتقالت.
كان من املمكن اأن ي�ستمر العمل بهذا الكتاب ل�سنوات
اأخرى! ذلك اأن عدد املعتقالت، اللواتي رحت اأكت�سفهن كل
يوم، كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني اأ�سطر اإىل ح�رس العدد
واإال فلن ينتهي الكتاب. فيما مل ميلكني وهم االحاطة بالتجربة
إ
أ
كامال يف كتاب واحد، النها، حقيقة، حتتاج اإىل كتب كي يتم ً
ر�سدها ب�سكل واف.
ٍ
اأثناء بحثي كنت اأ�سطدم على الدوام بالرعب املع�س�س يف
قلوب الكثريات من املعتقالت، خا�سة املعتقالت اال�سالميات،
إ
مما جعل جتربتهن تبدو، على الرغم من كل املحاوالت لالحاطة
إ
ؤ أ
بها، ناق�سة، فاية واحدة قابلتها منهن مل جترو على الكالم، عدا
ا�ستثناءات قليلة جداً، و�سط هيمنة اخلوف القدمي يف دواخلها.
واأعتقد اأن هناك بحق ما يربر ذلك اخلوف.
ّ
لذلك كان البد من اتباع اأ�ساليب خمتلفة لك�سف بع�س
أ
اجلوانب املتفرقة يف جتاربهن الغنية، ويف ك�سف احلقيقة االكرث
14. أ ؤ
غنى، مبعناها االن�ساين املومل، من كل التجارب االخرى. وعلى
إ
الرغم من قناعتي اأن االيديولوجيات تغيب يف املعتقل، وهذا
إ
ما حاولت اأن اأ�سلط ال�سوء عليه، اإال اأنها �ستبدو حا�رسة هنا
ّ
ب�سكل اأو باآخر، ذلك اأن ما تعر�ست له املعتقالت اال�سالميات
إ
خمتلف عما تعر�ست له ال�سيوعيات (باعتبار اأن الكتلتني
اال�سا�سيتني للمعتقالت كانتا من هذين التيارين). أ
لكن ثمة اأمر رافقني طيلة فرتة العمل كاد يتحول اإىل
هاج�س، وهو اأن اأختار بني اأمرين اأ�سا�سيني: الوفاء للتجربة غري
العادية، اأو الوفاء للكتابة.
إ أ
اأنا �سخ�سيا اخرتت االخرية المياين اأال جتربة ت�ستمر اإال
ً
حني تدون، وال�سياع كتب على كل �سيء مل ينق�س يف احلجر. ّ
أ
ذلك اأن ما ا�ستحوذ على اهتمامي، منذ اللحظة االوىل، هو اأن
اأ�ستطيع اإخراج كتاب ممتع اإىل قارئ مفرت�س، كتاب يحاول
اأن ينقل، لذلك القارئ اأي�سا، بع�س الويالت واالنتهاكات
ً
التي ارتكبت بحق الن�ساء، والرجال على ال�سواء، دون اأن يعلم
بها.
لذلك قد يبدو لقارئ ما اأن جتربة كاملة تلخ�ست يف
ّ
أ
الكتاب بق�سة واحدة اأو ق�ستني!. االمر ال يعني، بكل تاكيد،
أ
تقليال من قيمة التجربة برمتها، ولكن رمبا كان له عالقة مبا ً
قلت قبل قليل: الوفاء للكتابة فح�سب.
ؤ
لطاملا ناو�ستني يف هذا املو�سوع ت�ساوالت عدة:
15. مِمل الكتابة عن ال�سجن؟ َ
هل �سيحقق الن�س اجلمال املطلوب؟
أ
هل �ساغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟
يرى اإيتالو كالفينو، الكاتب االيطايل، اإننا يف الكتابة بحاجة
إ
اإىل تركيز فولكان، االله احلداد القابع يف فوهات الرباكني،
إ
وحرفيته املهنية لت�سجيل مغامرات عطارد، االله اخلفيف
إ
الر�سيق بقدميه املجنحتني.
اأ�سمح لنف�سي اأن اأ�ستعري القول هذا يف معر�س حديثي: كم
نحن يف حاجة اإىل حرفية اللغة ودالالتها الالمتناهية واإىل نحت
الكلمات كي ن�ستطيع التعبري عن ذاكرة ال�سجون املع�س�سة يف
اأرواحنا! وكم نحن يف حاجة اإىل اأمل ال�سجن وجتربته امل�سدودة
كوتر يف اأعماقنا كي نهب اللغة تلك احلقنة من الواقعية املوملة
ؤ
حد االنهاك!
إ
والن جتربة املعتقل جتربة من غري املمكن تدوينها، كما أ
أ أ
قلت اآنفا، يف كتاب، ولن ينجزها كاتب واحد بالتاكيد، والنً
كل ما يدونه املرء يتحول، �ساء اأم اأبى، اإىل ن�سخة مم�سوخة بل
م�سوهة من املعي�س، لذلك ينبغي معاملة الكتاب، وكل ما ميكن
اأن يكتب عن ال�سجون، كوم�سات �سوء تتواىل يف العتمة، لن
يت�سح امل�سهد اإال بتوايل تلك الوم�سات وتكثيفها يف جتارب
متعددة بتعدد م�سارات الطغاة، متنوعة بتنوع اأ�ساليب تعذيبهم
وقمعهم، وعميقة عمق اأقبية ال�سجون.
16. لنعتربها اإذاً حماولة لتدوين جزء من تاريخ ن�سوي �سيا�سي
ً ً
غيب �سنينا طويلة كما غيبت جتربة املعار�سة عموما ومبختلف
ّ ّ
اأطيافها.
باخت�سار، التجربة ال تقال بعيداً عن ظرفها االن�ساين. املهم
إ
هو اخلروج من اجلحيم واأننت ما زلنت مفعمات باحلب واحلياة
والرغبة بالفرح.
ً
اإىل لينا. و، عرفانا باجلميل يا �سديقتي.
اإىل ناهد. ب وهند. ق و�سحى. ع، ابت�ساماتكن اأ�ساءت
الكثري من املناطق املعتمة داخلي.
اإىل كل ال�سبايا املعتقالت...
عليكن العمل كثرياً لف�سح القليل من امل�سكوت عنه.
17. يف كتابه “اأنت جريح” يرتجى الكاتب الرتكي اأوردال
اأوز ج�سده، بل�سان بطل روايته، كي ي�ساعده على االحتمال
اأثناء التحقيق، يرتجاه كي ي�سمد كيما يحمله �ساملا اإىل منطقة
ً ّ
أ
االمان. ومنطقة االمان هنا خمتلفة اختالف الزمان واملكان أ
وال�سخ�سية والتقنية امل�ستخدمة واخلامتة اأي�سا!
ً
حني ينتهي التعذيب ي�سكر معتقل اأوز ج�سده، من كل
ّ
قلبه، لتبداأ حياة ال�سجن املتطاولة املمتدة.
هم�ست لينا.و() اأن كلمات اأوردال اأوز، وحدها، كانت
() لينا. و : معتقلة �سيا�سية من مواليد 959. اعتقلت يف �سنة 789 وحتى
�سنة 099.
18. ترنّ يف اأذنها وهي تتلقى �رسبات الكرباج الال�سعة على باطن
قدميها. بل�سانها كان بطل الرواية يرتجى ج�سدها اأن ا�سمد يا
ج�سدي، وبروحها كانت الرواية تنكتب كلمة كلمة!
أ
حني انتهى التعذيب �سكرت هي االخرى ج�سدها، كما
فعل بطل «اأنت جريح» متاما.
ً
لكن ما قراأته لينا بدا �سديد التاثري قبل اعتقالها، وجعلها
أ
ت�سهق منتحبة ل�ساعات ممتدة، حتول اإىل حكاية هزيلة وجمتزاأة
ّ
اإذا ما قورنت بالذي عا�سته داخل املعتقل خالل �سنوات
�سجنها الطويلة!
تتحول الكتابة يف مواجهة املعي�س قزما ال ي�ستطيع اأن يبلغ
ً ّ
ن ما تلم�سه مبلغ الرجال، اأو م�سخا عاجزاً ومثرياً لل�سحك. الأ
ً
اأج�سادنا، مل�س احلقيقة، ال ميكن للغة، مهما فاحت منها رائحة
التجربة، اأن جت�سده بعمقه اجلواين.
ّ
ن -هذا ما يحدث متاما.. تتغري كل نظرتنا اإىل احلياة بعد اأ
ً
نخرج!
اأعقبت حديثها.
كلماتها تلك كانت اأ�سبه با�سطورة اأورفيو�س().
أ
ذلك اأنه مل يكن قد م�سى وقت طويل على زواجه من
حبيبته يوريد�س حني لدغتها اأفعى قابعة يف الع�سب.
ماتت وهي بعد عرو�س �سابة.
أ
() عازف القيثارة ال�ساحر يف اال�سطورة اليونانية وهو ابن اأبولو وربة الفنون
كاليوبي.
19. �سدح اأورفيو�س بحزنه لكل من يتنف�س الهواء من االلهة
آ
والنا�س، فلم يجد اأحداً يبحث له عن زوجته يف اأقاليم املوتى.
حينئذ قرر اأن يهبط بنف�سه النقاذها من العامل ال�سفلي عن طريق
إ
كهف مهجور وعميق.
هناك، يف جماهل املوت، وقف العا�سق اأمام عر�س بلوتو
ً
وبرو�رسبني، عزف على قيثارته، وغ ّنى باكيا وجده.
كان غناء اأورفيو�س موثراً حتى اأن اإلهي العامل ال�سفلي
ّ ؤ
�سمحا له با�سطحاب حبيبته اإىل عامل ال�سوء، عرب ممرات الظالم
ال�ساهقة، �رسيطة اأال يلتفت اإىل الوراء حتى يخرجا اإىل الهواء
أ
االر�سي.
�سار احلبيبان ب�سمت مطبق حتى اقرتبا من املخرج.
لكن هاج�س فقدانها من جديد جعل اأورفيو�س يلتفت اإىل
الوراء ليلقي نظرة على حبيبته، نظرة واحدة الغري.
أ
هكذا خ�رسها اإىل االبد.
هل يكون لظالم ال�سجون ظلمة العامل ال�سفلي!
وذلك ال�سلم ال�ساهق، يف�سل �سقيعها القا�سي عن دفء ّ
اخلارج، هو الدرب الطويل ذاته الذي يقطعه كل معتقل
أ
ومعتقلة يف حماولة للتخل�س من روا�سب االنك�سار واالمل!
روا�سب تراكمت على اأرواحهم خالل �سنوات ال�سجن!.
�ستبدو نظرة اأورفيو�س اإىل الوراء كنظرة املعتقل/ املعتقلة اإىل
�سنواته/ �سنواتها املنق�سية يف هواء ال�سجن الفا�سد!..
20. لكن رمبا كان ما من�سيه يف ال�سجن يربجمنا لنوع من التهدمي
لذاتي()! وعلينا اأن نحارب �سد هذا ال�سعور الذي يبقى معنا
حتى عندما نخرج من ال�سجن.
مل ال يكون جمرد نب�سنا ملمار�سات القمع هو طريقة للخال�س
ّ َ
أ
منها، طريقة ملقاومة ذاك التهدمي الذاتي ياكلنا من جوانيتنا.
لكننا نكت�سف حني نخرج اأن احلكاية خمتلفة متاما.
ً
نكت�سف اأن هناك مناطق من اأنف�سنا حرقت نهائيا ولي�س من
ً
ال�سهل اأن نتابع احلياة معها. تغدو تفا�سيل العي�س بعد ال�سجن
ً
خمتلفة متاما عما كانت قبله.
احلب غري احلب!
الفرح غري الفرح!
أ
حتى للذة طعم خمتلف.. كان الروح ا�ستحالت اإىل روح
اأخرى!
رمبا كان اأهم ما ن�ستطيع فعله هو اأن نبقى اأنا�سا، بكل ما
ً
تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية، اأن ن�سري اأبعد من طعم ذلك
الرماد الذي بقي يف اأفواهنا.
هل تبدل الكتابة طعم الرماد؟!.
ّ
رمبا بدلت ذلك لدى الكاتبة امل�رسية فريدة النقا�س ، وهي
()
ّ
أ
() هذا ما يراه الكاتب براينت برايتنباغ: املعتقل يف �سجون النظام االبي�س يف
جنوب اإفريقيا، وذلك يف مقالته: يعلمنا ال�سجن اأننا �سجناء. املن�سورة يف جملة
الكرمل/ ع 5 �سنة 589.
() فريدة النقا�س، ال�سجن.. الوطن، دار الكلمة ودار الندمي، بريوت
089.
21. اأول من �سجل جتربة املعتقل بقلم امراأة عربية، بعد اأن �سجنت
ّ
طويال كمعتقلة �سيا�سية يف �سجون ال�سادات. ً
ثمة جملة اأطلقتها النقا�س يف الكتاب رمبا كانت تيمة
اأ�سا�سية يف بالد الطغاة، كل الطغاة:
(مل يعمل اأحد بال�سيا�سة من اأبناء جيلي ويفلت من جتربة
ال�سجن.
اأ�سبح ال�سجن اإذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام).
هذا ما تويده كاتبة اأخرى، اعتقلت طويال يف ال�سجون
ً ؤ
املغربية، وهي فاطمة البويه(5).
دونت البويه كتابها يف املعتقل، ثم ن�رسته بالعربية بعنوان: ّ
حديث العتمة، وبالفرن�سية بعنوان: امراأة ا�سمها ر�سيد.
ر�سيد هو اال�سم الذي اأطلق عليها يف املعتقل حني كانت
�سلبة كرجل!.
أ
تقول فاطمة البويه اإن الدور اال�سا�سي يف اإقناعها بالن�رس كان
للكاتبة املغربية فاطمة املرني�سي، بعد اأن مر اأكرث من ع�رسين
ّ
عاما على كتابته. واملرني�سي عملت كذلك على كتابة التاريخ ً
املغربي بعيون منا�سالت و�سجينات �سيا�سيات �سابقات.
هل الكتابة عن «الوراء» كافية لتعود كل اأحالم ال�سجني/
أ
ال�سجينة بعامل االلوان اإىل رمادية العامل ال�سفلي؟
(5) يف مقابلة اأجراها معها �سامي كليب، من�سورة يف املوقع االلكرتوين:
إ
اجلزيرة نت/ www.aljazeera.netيف برنامج زيارة خا�سة عن التعذيب
يف ال�سجون املغربية.
22. لي�ستحيل الولع بالقادم، الغريب برمته، اإىل انتكا�سة
مريرة؟
أ
اأم هي حماولة لنب�س ما دفن هناك وقتله اإىل االبد با�سطحابه
معنا اإىل النور؟!!
ال يهم.
ّ
ن �رساخ املحقق، الداخل لندع احلديث جانبا، ذلك اأ
ً
ًّ
للتو اإىل الغرفة، �سعق ناهد.ب() وهو يقتحم املكان م�سما
ً
مبهما.
مل تكن قد مرت دقائق على خروجه بعد انتهاء حفلة تعذيبها
ّ
بالدوالب(7)، حفلة ا�ستمرت �ساعات. قدماها ال تكادان
أ
حتمالنها على االر�س الباردة، واأمل فظيع يجمع حوا�سها كاملة
ّ
يف اأ�سفلهما املنتفخ واملدمى..
ّ
كانت ترتنح جاهدة للوقوف.. اأو ما ي�سبه الوقوف.
ً
الطمي�سة(8)، التي تغطي عينيها بالكامل، ال ترتك جماال ّ
ل اإىل عينيها، أ
اإال خليط نور رفيع اآت من اال�سفل. العرق يت�سلّ
ؤ ً
يكيل امللح حارقا داخلهما، وروية �سبابية تلوح لطرف حذاء ّ
() ناهد. ب: معتقلة �سيا�سية �سيوعية من مواليد 859، اعتقلت يف اأواخر
�سنة 789 وحتى نهاية �سنة 99.
(7) و�سيلة للتعذيب عبارة عن دوالب �ساحنة جترب املعتقلة على اجللو�س فيه
في�سغط ج�سدها جامعا راأ�سها اإىل قدميها، ويكبله فا�سحا املجال للع�سي كي
ً ّ ً
تطال اأ�سفل قدميها وبقية اأع�سائها.
(8) الطمي�سة: قطعة م�ستطيلة م�سنوعة من اجللد الكتيم، تغطى عينا املعتقل بها
لي�سبح يف اأ�رس ثان من العتمة املطبقة.
0
23. أ
املحقق اال�سود الغري.
اأجابت عن ال�سوال للمرة العا�رسة بالمباالة كي تفهمه اأنها
ؤ
عرفت �سوته ومل يخدعها:
- ناهد..
- ما هو عملك؟
- مهند�سة!..
- اأنت مهند�سة!!.. اأنت عاهرة.
أ
مل جتد ناهد نف�سها اإال وهي ت�سيح كمن ن�سي تعبه فجاة
وكمم�سو�سة:
- البلد كله يعرف من هم العواهر ومن هم غري الـ...
اأتت ال�رسبة جمنونة مباغتة على وجهها لت�سكتها متاما،
ً
أ
وتلقيها بعيداً على بالط االر�س العاري والقذر.
مل تدر ناهد اإال ومقدمة حذاء عري�سة ومرة حتاول الدخول
ّ مِ
ب�رسا�سة يف فمها وهو ُيفتح على الرغم منها. مل تكن متتلك اأية
طاقة على حتريك اأي جزء من ج�سدها امل�سجى كجثة المبالية
ً
فيما �سيل ال�ستائم وحده ميور يف الغرفة، ويتوا�سل منهاال
عليها.
يف املكان نف�سه كان ثمة فتاة اأخرى تدخل زمن االعتقال
تدعى هند.ق(9).
(9) هند. ق: معتقلة �سيا�سية �سيوعية من مواليد 59 اعتقلت اأول مرة يف
�سنة 89 وحتى �سنة 89 ويف املرة الثانية من �سنة 89 وحتى �سنة
99.
24. لكن اأول ما قامت بفعله هند حال دخولها اإحدى منفردات
فرع االمن، وحاملا اأغلق ال�سجان الباب احلديدي، اأن �رسعتأ
ّ
تدقّ على جدران الزنزانة، تدقّ بهي�ستريية علها ت�سيب ولو
دقّة خافتة من منفردة جماورة على جدران منفردتها، ت�سعرها
بوجود حياة ما يف هذا الظالم امليت واملميت.
ّ
اإنه اعتقالها الثاين، لذلك كانت تتكهن، من معرفتها
باملكان، اأن املنفردات املجاورة مليئة باملعتقلني. كانت حت�س
ّ
أ
اجلو املحيط املحقون باالنفا�س والهمهمات املكبوتة.
بالفعل، بعد ثوان اأجابت على دقاتها اللهفة دقات اأخرى
على احلائط اليميني للمنفردة. بداأ احلديث بالدقات على
الفور: لغة املعتقلني املعروفة.
�سال الطارق: أ
- من اأنت؟ ما هي تهمتك؟
- اأنا واحدة.
- اأعرف اأنك وحدك!!
- ال.. اأنا واحدة.. بنت يعني.
الده�سة، اأي التوقف عن الدق، هي رد الفعل الوحيد بدر
ّ
عن الطارق املجاور. يبدو اأنه فوجئ بوجود ن�ساء يف هذا
املكان! ذلك اأين كنت من اأوائل املعتقالت يف الفرع قبل اأن
تبداأ حملة االعتقاالت امل�سعورة �سنة 789.
ً أ
ا�ستمرت االحاديث بيننا طويال ذاك اليوم.
25. كلما ابتعدت خطوات ال�سجان اأهرع اإىل احلائط لهفة
ليعلو �سوت الدقات، وكلما اقرتبت خطواته الطارقة على
بالط كوريدور الفرع، املليء باملنفردات املتقابلة، تتال�سى
اأ�سوات الدقات.. حتى راح اخلدر ي�ستقر يف اأطراف اأ�سابعي
وهي حتتك باحلائط العاري اخل�سن طيلة الوقت.
بعد اأيام ا�ستطاع الطارق اإخبار هند اأن هناك طاقة يف اأعلى
�سقف املنفردة، حتت ال�سقف امل�ستعار، وهي حمددة بال�سبك
ّ
أ
تطل على الفراغ فوق �سقف املنفردة االخرى. ت�ستطيع ّ
املعتقلة، اإذا ت�سلقت جدران املنفردة ال�سيقة، اأن ت�سمع �سوت
االخر الهام�س من هناك. آ
جنحت هند، بعد عدة �سقطات، اأن تت�سلق املنفردة، �ساعدها
ج�سدها النحيل على ذلك بو�سع �ساقيها على حائطيها املتقابلني
حتى و�سلت اإىل اأعلى وا�ستمعت اإىل �سوت ال�ساب:
حممد.ع كان ا�سمه.
حاول الهرب من اجلي�س اإىل تركيا، لكنهم ا�ستطاعوا القب�س
عليه على احلدود لي ّتهم بالفرار من خدمة العلم، ويرمى هنا
منذ �ستة اأ�سهر.
حدثني عن جحيم عا�سه يف اجلي�س، وعن جحيم كان ّ
ينتظره منذ حلظة اإلقاء القب�س عليه وحتى جميئه اإىل هنا.
- معك دخان؟!! �ساموت من اأجل �سيجارة.. ولي�س
أ
لدي نقود..
26. ً
هم�س حممد من بعيد مرتجيا.
- معي..
اأجبته �ساحكة.
من خيوط البطانيات الع�سكرية العفنة، بالكاد تدراأ برد
اآذار املجنون يف تلك ال�سنة، ا�ستطعت، تنفيذاً لتعليمات حممد،
اأن اأن�سج حبال طويال ومتينا، ربطت اإليه �سابونة، كنت قد
ً ً ً
ا�سرتيتها من ال�سجان، وربطت اإليها باكيت دخان “حمراء
طويلة”، كنت قد ا�سرتيته اأي�سا با�سعاف ثمنه ودخنت منه
ّ ً أ
ثالث �سجائر فح�سب يف الليل.
رميت احلبل والباكيت يف اآخره عرب الطاقة اإىل منفردة حممد
املجاورة.
أ
مل اأجنح يف املرة االوىل، لكن يف الرمية الثانية انزلقت
ال�سابونة، ومعها احلبل والباكيت، اإىل زنزانته.
بهذه الطريقة املبتكرة ا�ستطعنا، نحن االثنني، اأن نتبادل
أ
الكثري من اال�سياء: كربيت، حمارم، ر�سائل، واأ�سياء اأخرى مل
اأعد اأتذكرها جيداً.
ثم راح حممد يحرق اأعواد الثقاب بالع�رسات، يكوم
ّ
ال�سحار تلة �سغرية يف زاوية منفردته ليكتب به كحرب. اأما
عيدان الثقاب فقد حتولت اإىل اأقالم نفي�سة، تخط الر�سائل على
ّ
ورق كان يوما ما اأغلفة لباكيتات الدخان.
ً
ّ
يكتب، ثم يرمي ر�سائله امللتهبة اإيل..
27. يكتب ويرمي.
ر�سائل ع�سق رائعة حتملني بعيداً عن قربي.
ر�سائل ع�سق حتيل عتمة وبرد منفردتي اإىل غرف حميمة،
حميمة ودافئة.
يف ذلك الوقت ا�ستطاع حممد، الذي مل اأر وجهه يوما، اأن
ً
أ
يجعلني عا�سقة ولهانة يف منفردة من�سية من فرع االمن.
- اأنا باق هنا، واأنت بالتاكيد �ستخرجني قريبا.. وحينها
ً أ ٍ
اأمتنى اأن تذهبي اإىل اأهلي، وتتعريف عليهم، وتطمئنيهم عني.
ّ
خرية، وكان قد مر
ّ هذا ما قاله حممد واثقا يف االيام االأ
أ ً
حوايل ال�سهر على اعتقال هند يف املنفردة املجاورة.
ذات �سباح جاء ال�سجان، رمى لها الفطور يف الق�سعة
ً ّ
املعدنية قائال: جهزي نف�سك �ستنقلني اإىل �سجن الن�ساء(0).
مل يكن للخرب وقعه الفرح املتوقع!
كان على هند اأن تو�سل اإىل حممد قرار انتقالها املفاجئ.
دقّت على حائط املنفردة لهفة قلقة لتخربه بتحقق ن�سف نبوءته
أ
ال غري، وبانها �ستخرج لكن اإىل �سجن الن�ساء.
مبا اأن حممد مل يكن ميتلك اأية نقود فقد عملت هند على
أ
رمي ما تبقى معها له. ربطت االوراق النقدية بال�سابونة،
وراحت حتاول قذفها عرب الطاقة دون اأن ت�ستطيع ذلك.. كان
عليها اأن تتم املهمة ب�رسعة وقبل جميء ال�سجان، لكن توترها
ّ
(0) يق�سد �سجن الن�ساء املدين الذي كانت املعتقالت ال�سيا�سيات ي�سجن فيه
مع الق�سائيات.
28. أ
زاد االمر �سوءاً.
أ
رمتها مرة تلو االخرى..
أ أ
مرة تلو االخرى.. دون اأن ينجح االمر.
اأخرياً، قبل دخول ال�سجان بثوان، جنحت هند يف اإي�سال
هديتها الثمينة اإىل حممد قبل انتقالها.
لكنها ن�سيت يف ذلك اليوم م�سابح نوى الزيتون التي
�سنعتها طيلة ال�سهر املن�رسم، ن�سيت اأي�سا ر�سائل حممد احلارة
ّ ً
حتت البطانية الع�سكرية. وخرجت لتظل اأكرث من �ست �سنوات
ّ
أ
بعدها يف املعتقالت: يف �سجن الن�ساء االول، ومن ثم �سجن
الن�ساء الثاين.
اأما حممد، كما عرفت هند فيما بعد، فقد ظل حوايل �ست
أ
�سنوات بعدها معتقال يف فرع االمن قبل اأن يطلق �رساحه يف
ً
�سنة 099.
30. 7891
رمبا كانت جملة اإلهام �سيف الن�رس، القابعة يف نهاية
كتابه «�سجن اأبو زعبل»()، حقيقية ب�سكل ما، ورمبا ابتعد
عن ال�سواب من مل يجعلها ديدنه! فهو يرى اأن كافة اأ�سكال
التعذيب واأهدافها، كذلك نف�سيات ال�سجانني و�سخ�سياتهم،
ً
تكون دائما مت�سابهة من مع�سكرات النازي اإىل مع�سكرات
اليابان اإىل مع�سكرات «بابا دوبولو�س» يف اليونان!.
أ أ
اإذاً االمر ين�سحب اإىل هنا اأي�سا، اإىل فرع االمن، منذ بداية
ً
االعتقاالت يف الن�سف الثاين من ال�سبعينيات وحتى يومنا
هذا.
() اإلهام �سيف الن�رس، �سجن اأبو زعبل، دار الفكر اجلديد، بريوت 579.
31. امل�سهد ذاته يتكرر مراراً، كما يقول اإلهام �سيف الن�رس،
لكن بتغريات طفيفة:
ّ
خ بالدماء. غرفة رمادية يتو�سد بالطها معتقل ملطّ
أ
غرفة ت�سبح فيها الدماء على االر�س، بركة خمتلطة بال�سديد
واملاء ي�سكب مراراً على �ساب غيبه التعذيب عن الوعي.
ّ
معتقلون مرميون يف الكوريدورات وما تزال جروحهم
تنزف، يتنقل ال�سجانون واملحققون واجلالدون على اأرجلهم
واأيديهم واأجزائهم املنهكة.
أ
الكرا�سي االملانية() هنا وهناك ويف كل مكان..
ّ أ
الطمي�سات الكتيمة بالوانها القامتة معلقة على اجلدران.
رائحة دم متخرث، اأ ّنات مكبوتة، �رساخ، و�سياح
املحققني.
أ
هذا هو فرع االمن باخت�سار.
ّ
الكثريون يرون التعذيب جمرد و�سيلة للحط من النوع
االن�ساين، اأي حتويل االن�سان اإىل جمرد كائن مقهور بال اأي
إ إ
اعتبار ذاتي اأو كرامة، بالتايل ت�سبح غريزة البقاء، لي�س اإال،
أ
املحرك اال�سا�سي لوجوده.
يف يوم من اأيام 789عريت اإحدى املعتقالت ال�سيوعيات
ُّ
بثيابها الداخلية فيما كانت تُ�رسب بالكرباج اأمام املالزم،
أ
() الكر�سي االملاين: هو كر�سي دون جل�سة اأو م�سند، جمرد هيكل معدين
يجل�س فيه املعتقل، يقيد من يديه ورجليه، ويطوى ظهره باجتاه اخللف حتى
تتقطع اأنفا�سه.
0
32. وتُ�رسب بعيون اجلالدين التي تلتهمها �سبقة مت�سهية لعريها.
وقت انتهى التعذيب رميت ال�سبية يف غرفة ال�سجان
ولي�س يف الزنزانة كما هي العادة، كانت الذريعة عدم وجود
اأماكن يف الزنازين، ولرمبا كانت ذريعة مقبولة و�سط هيجان
االعتقاالت ذاك الزمن.
اأح�ست و�سط ظلمة الليل بحركة ال�سجان يف الغرفة. كان ّ
من العنا�رس كما بدا لها. حفيف حركته يقرتب املبنى خالياً
منها. ثم اأم�سك بيدها، وهو يومئ لها بال�سكوت، قبل اأن
يحاول ج�سده االطباق عليها.
إ
على الرغم من اأنها مل تكن تقوى على اإ�سدار نامة، فج�سدها
أ
أ
منهد حتت وقع االمل والتعب، حاولت ال�سبية الهرب منه يف ّ
اأرجاء الغرفة ال�سيقة جارة ج�سدها كخرقة. وحني ح�رسها بني
ّ
ت بال�رساخ. ج�سده واجلدار ما كان منها اإال اأن بداأ
�رسخت و�رسخت.
حتى التامت جمموعة من ال�سجانة املناوبني يف الغرفة أ
واأبعدوه عنها.
لكن تلك املعتقلة قررت اأال ت�سمت.
آ
يف اليوم التايل ا�ستكت للمالزم االخر. وم�ساء، وقت
أ
طلبت من جديد اإىل التحقيق، عمل املالزم االول على تعريتها ُ
ً
كما االم�س قائال وعيناه تتوعدان: أ
- حتى ال تعيديها وت�ستكي مرة اأخرى.
33. أ
ال�سيء الالفت، الذي ال يحدث اإال يف تلك االقبية، اأن
ً أ ً
املعذبني كانوا �سباطا يف معظم االوقات، �سباطا ولي�سوا
جالدين!
اأما اأ�ساليب التعذيب فقد كانت كثرية ومبتكرة:
أ
و�سعت االوراق بني اأ�سابع �سحر.ب()، اأ�سعلوها ُ
م�ستمتعني ب�رساخها وبرائحة جلدها املحروق.
ُ ِّ
بقية البنات، يف دفعة اعتقاالت 789، عذبن بالكهرباء
ً ُ
وبالدوالب. حميدة.ت() مثال و�سعت يف الدوالب دون
اأن يلب�سوها البنطلون على الرغم من �رساخها طويال. يف
ً
نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية، وهي ما تزال م�سغوطة
بالدوالب، فيما ال�سجان يقهقه �سامتا: لقد راأيت كلوتك..
ً
لونه اأبي�س.
ثمة طريقة مبتكرة عذبت بها حميدة اأي�سا ومعها غرناطة.
ً ّ
ج(5) تتلخ�س يف و�سع الراأ�س يف اأداة الفلق، عو�سا عن و�سع
ً ّ
ؤ أ
القدمني فيها، يرفع ال�سجانون االداة واملعتقلة فيها مما يودي
اإىل ان�سغاط رقبتها بني حبلي الفلق حتى تو�سك اأن تختنق.
يحتقن وجهها حتى يزرق، وتبداأ احل�رسجات بالت�ساعد.
() �سحر. ب: معتقلة �سيا�سية من مواليد 759. اعتقلت من �سنة 979
وحتى �سنة 089، ومن �سنة 789 وحتى �سنة 99.
() حميدة. ت: معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد 9. اعتقلت من
�سنة 789 وحتى �سنة 099.
(5) غرناطة. ج: معتقلة �سيا�سية من مواليد 9، اعتقلت �سنة 789
وحتى �سنة 99.
34. أ
حينها فح�سب يرمونها اأر�سا وهي يف اأنفا�سها االخرية.
ً
رمبا كانت ماهية التعذيب تتلخ�س يف اإعادة ال�سجني/
أ
ال�سجينة اإىل مركباتهما االولية، مركبات االن�سان البدئية
إ
والفطرية، ليحوله/ يحولها اإىل رجل/ امراأة كهف عاريني اإال
من ورقه ال�سجر، اإن وجدت.
ً
عاريني يف مواجهة قوى الطبيعة الغا�سمة واملبهمة متاما
على تف�سرياتهما البدائية والقا�رسة.
تتبدى ال�سورة كما يلي: معتقل/ معتقلة اأعزل متاما اإال من
ً
ذاكرة اأ�سحت وباال عليه، ذاكرة هي املربر الوحيد لكل هذا
ً
اجلحيم امللقى فيه.
معتقل/ معتقلة اأعزل يف وجه التعذيب والقهر واخلوف
الطبيعي والغريزي من املوت..
اإذاً عمل التعذيب هنا على الغريزة.. غريزة البقاء
فح�سب.
رمبا كان ذاك ال�سابط الو�سيم يعبث بتلك الغريزة اأي�سا
ً
وقت غادر مكتبه، بعيونه اخل�رساء وقامته ال�سامقة، لي�رسب
فتاة ملقاة على اأر�س غرفته بالكرباج.
�رسبها و�رسبها حتى بداأ باللهاث والت�سبب عرقا، حينئذ
ً
أ
رمى الكرباج من يده، تركها تئن باآخر طاقتها على االنني
ً ً أ
ليعود اإىل مكتبه هادئا كان �سيئا مل يكن.
أ أ
على مكتبه كانت ت�سطف: علبة تقليم االظافر، كا�س
35. الوي�سكي والثلج بداأ بالذوبان فيه، وزجاجة العطر.
أ
يرت�سف ر�سفة من الكا�س، مي�سم�س بها وهو يبت�سم �ساخراً
رامقا الفتاة بغواية، ثم يزدرد الطعم الالذع واملمتع، يبخ من
ّ ً
زجاجة العطر ويتن�سم رائحتها تزكم اأنف ال�سبية املرمية اأر�سا
ً
على الرغم من اأن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ املحيط.
اأخرياً يخرج ال�سابط بهدوء �سيجارة من باكيت املارلبورو،
ً
يدفعها من بعيد، من خلف مكتبه، مومئا لل�سبية التي راحت
ً ً
تراه غائما من خلف حجب تن�سدل على عينيها �سيئا ف�سيئا..ً
ت�رسبني �سيجارة؟!!.
بالن�سبة اإىل �سناء.ح() كان الدوالب اأول �سيء ينتظرها يف
ؤ أ أ
فرع االمن قبل التحقيق، وقبل اأن تُ�سال اأي �سوال!
رمبا النها من اأوائل املعتقالت يف حملة االعتقاالت الوا�سعةأ
يف 789، حملة عملت ذات �سباح على اعتقالها يف اأحد
أ
اأحياء العا�سمة ونقلها م�سحوبة من �سعرها اإىل �سيارات االمن
ومن ثم اإىل مقر الفرع.
كان ثمة اأمر حدث قبال رمبا ا�ستفزهم، مل ين�سوه البتة واأرادوا
ً
أ
االنتقام. كانت �سناء قد ا�ستطاعت الهرب من عنا�رس االمن
قبل �سنة، اأي يف حملة اعتقاالت 89 (حملة اعتقاالت
() �سناء. ح: معتقلة �سيا�سية �سيوعية مواليد 859 اعتقلت من �سنة 789
وحتى �سنة 99 .
36. اللجان ال�سعبية)، حني دوهم بيت جميل.ح(7) واألقي القب�س
على جمموعة من ال�سباب املجتمعني فيه، فيما هربت �سناء مدعية
اأنها ابنة للجريان.
اال�ستقبال االول: اأم�سكني ال�سابط من �سعري، وطفق أ
ي�رسب راأ�سي باجلدران بهي�ستريية.
كنت اأتطوح بني يديه كدمية قما�سية، اجلدران ال�سلدة
تتلقى ه�سا�سة راأ�سي قا�سية كما هي دوما.
ً
اأح�س بان دماغي �سيتطاير اإثر كل �رسبة.
ّ أ
قبل اأن ي�سيع راأ�سي على ال�سابط متعة التعذيب األقاين اأر�سا،
ً ّ
ليجعل ال�ساعات املبهمة القادمة تنق�سي و�سدمات الكهرباء
املتتالية على يدي ورجلي جتعلني اأح�س ج�سدي بكليته يرتفع
ّ
نة أ أ
ثم يخبط على االر�س فجاة، وروحي ت�سعد معه وتهبط اآ
على ق�ساوة البالط.
نهاية اقرتب مدير ال�سجن، الذي اأ�رسف على تعذيبي
ً
بنف�سه، وراح يتم�سى بت�سف على �ساقي امل�سلولتني متاما.
ٍّ
رحت اأ�رسخ مبا تبقى يل من قوة على ال�رساخ وهو يفرك
حذاءه على ركبتي كانه ميع�س �رس�سوراً، اأو كانه يحاول هر�س
أ أ
العظام القابعة حتت اجللد.
كنت اأح�س بان العظام تنهر�س حقا.
ً أ
- عاهرة .. حقرية..
(7) قا�س �سيوعي معروف اعتقل من �سنة 879 اإىل �سنة 089وحني اأطلق
�رساحه هاجر اإىل فرن�سا وظل فيها حتى تويف هناك.
37. �ساح يف اأذين.
لكني مل اأ�ستطع ال�سكوت حينها وهو يرمي ب�سيل ال�ستائم،
وحني رحت اأرد عليها ب�ستائم مماثلة اأقحم حذائه يف فمي وهو
ّ
أ
يعاود �ستمي باالقذع، ويعاود التعذيب ب�سكل اأ�سد.
مرت �سهور طويلة ومل ينته تعذيب �سناء.
كلما اأتت دفعة من املعتقلني اأو املعتقالت اجلدد يعاودون
التحقيق معها، ا�ستجوابها من جديد، ومن ثم تعذيبها..
تعذيب.. تعذيب..
االيام املتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع ي�سطر اإىل اإعطائها أ
علبة مهدئ كي ت�ستطيع النوم، وعلبة ليرباك�س كي تكف
ّ
معدتها، امللتهبة ب�سدة، عن اإقياء وت�سنج اأ�سحى ال يحتمل.
ً
يف اليوم الرابع لالعتقال ا�ستيقظت �سناء.ح �سباحا، كان
ً ّ ً
ج�سدها منهكا منهكا حد التال�سي.
الزنزانة خالية اإال من رائحة عفونة، اأ�سوات ال�سجانة
ال�سباحية، بطانية ع�سكرية، وعلبة بال�ستيكية مدورة كانت
فيما م�سى علبة للحالوة.
َ
جاء موعد اإخراجها اإىل التواليتات. مل تدر �سناء مل قامت
مِ
أ
مبلء علبة احلالوة حتى حافتها باملاء! عادت اإىل الزنزانة باناة
وهي حتاول اأال ت�سكب اأية قطرة منها على اأر�س الكوريدور.
اإىل املنفردة قفلت وهي تفكر اأنها �ست�ساق االن اإىل التعذيب
آ
ً أ
كما كل االيام ال�سابقة. التعذيب �سباحا وم�ساء..
ً
38. يريدونني اأن اأ�سلم اأكرم.ب(8).. من اأين اأعرف اأين هو
ّ
اأكرم؟!!!
هم�ست �سناء اإىل نف�سها.
اأح�ست بانها متعبة للغاية، بانها ال متتلك اأية طاقة على
أ أ
التحمل وهي يف بئر عميق عميق وداكن على �سكل منفردة،
وبان ال نهاية لكل ذلك.. ال نهاية. أ
فقدت الرغبة يف مراقبة االنعكا�سات على بقعة املاء التي
داأبت على �سكبها وراء باب منفردتها رقم 0. تلك البقعة
كانت كمراآة تعك�س �سورة القادم من الكوريدور املواجه
أ
وذلك عرب الفراغ املت�سكل اأ�سفل الباب املرتفع عن االر�س.
�سناء كانت اأول من يلمح اأي قادم جديد اأو نزيل للمنفردات
من مراآتها املائية العاك�سة، لتهم�س اإىل املنفردات املجاورة
باحلدث الطارئ.
لكن �سطوة علبة املهدئ وعلبة الليرباك�س، املو�سوعتني اإىل
جانب البطانية، كانت هي ال�سيدة حلظتئذ.
�سطوة تناديها لالن�سياع.
اأ�سوات التعذيب تتناهى اإليها من غرف التحقيق يف الطابق
العلوي.
كم�سرية، قي�س لها ذلك، اأفرغت �سناء حبوب الدواء كلها
ّ ّ
(8) اأكرم. ب: اأحد املعتقلني ال�سيوعيني. كان ع�سواً يف املكتب ال�سيا�سي
أ
للحزب وهو من مواليد 59 اعتقل يف املرة االوىل من �سنة 879 وحتى
089 ويف املرة الثانية يف اأب 789 واأطلق �رساحه يف عام 00.
39. يف فمها، �رسبت بعدها كل املاء املوجود يف علبة احلالوة.
...
بداية اأح�س�ست باخلدر يت�سلل اإىل ج�سدي.
كان باب املنفردة يفتح، �سبح ال�سجان يقف بالباب ويريد
اأن ياخذين اإىل التحقيق. ال�سورة راحت تغيم اأمامي: أ
- يريدونك فوق.
هم�س ال�سجان. رمبا اأح�س ب�سحنتي الغريبة وعيني
ّ
الغائمتني. مل اأ�ستطع القيام، اأجبته واهنة وب�سوت مبحوح:
آ أ
- �رسبت كل احلبوب.. االن �سارتاح.
كنت اأ�سعر باين �سارتاح حقا.
ً أ أ
انقطعت اأنفا�س ال�سجان قبل اأن ي�سابق َنفْ�سه مهروال اإىل
ً َ
االعلى. كان ي�سيح بان �سناء انتحرت، اأ�سمع �سدى �سوته
أ أ
أ ّ
يتناهى اإيل وهو يرتدد يف االقبية.
مل متر دقائق حتى كان مدير ال�سجن بباب املنفردة، ملحته
ك�سبح قبل اأن اأغيب عن الوعي متاما.
ً
...
حني ا�ستيقظت �سناء.ح كانت ممدة على �رسير م�ست�سفى!
ّ
ً أ
وثمة دكتور قبالتها ي�سيح بامل مغطيا عينيه بيديه:
- هوالء يهود.. ما الذي فعلوه بج�سدك؟! جمرمني ؤ
�سفاحني.
ؤ
الكدمات الزرقاء القامتة منت�رسة على ج�سد �سناء، متلوه
40. كله، ذراعاها و�ساقاها متف�سختان، اجلروح عليها متقيحة،
ووجهها متورم حتى ال تكاد عيناها تظهران فيه.
يف ذلك اليوم، بعد غ�سل معدتها، اأعيدت �سناء م�ساء اإىل
ً
املنفردة.. ومل يقم اأحد بتعذيبها!
يف �سباح اليوم الثاين اأخذوين مطم�سة اإىل غرفة التحقيق.
ّ
و�سلوا اأ�رسطة الكهرباء اإىل معظم مناطق ج�سدي: اإىل
مع�سمي وذراعي، اإىل ر�سغي وذراعي، ثم اإىل بطني ليبداأ
ّ ّ ّ ّ
قل من خم�س دقائق، �سمعت �سوت التعذيب. لده�ستي، بعد اأ
أ
و�سو�سات وهم�سات يف الغرفة ثم فجاة توقف التعذيب،
وخرج اجلميع.
على الرغم من الطمي�سة، تغطي عيني بالكامل، اإال اأين
اأح�س�ست بعدم وجود اأحد حويل. كان ال�سمت قد خيم على
ّ
املكان!
ما يف حدا هون؟!!
�سحت. لكن اأحداً مل يجب!
زحفت اإىل احلائط، حاولت اأن اأنزع الطمي�سة بحفّها به،
ّ
جنحت يف خد�س �سطحه اخل�سن خدي ووجنتي، لكني اأخرياً
نزعها.
ً
كانت الغرفة فارغة متاما!
أ
من اخلارج ا�ستطعت اأن اأ�سمع �سجة عنا�رس االمن وهم
ميرون يف الكوريدور، وتعرفت على �سوت اأكرم.ب.
ّ
41. اإذاً لقد األقوا القب�س عليه.
بعد اأكرث من ربع �ساعة، واأنا من�سية يف الغرفة، رحت
اأ�رسب على احلائط بكلتا يدي، اأ�سيح، اأزعق، حتى اأتى عن�رس
أ
واأنزلني اإىل املنفردة بدون الطمي�سة للمرة االوىل.
ّ
الول مرة اأرى املمرات، الكوريدورات، ومتاهات الفرع أ
واأنا اأعود اإىل منفردتي.
أ
اأح�س باالمر ككابو�س.
مل اأعرف كيف اأتى اأول الليل وعادوا ال�ستدعائي جمدداً.
مدير ال�سجن وجمموعة من ال�سباط جمتمعني يف غرفة. من
حتت الطمي�سة ا�ستطعت اأن اأملح وجيه.غ (زوربا)(9) ملقى
على وجهه يئن، ج�سده مثخن باجلروح املفتوحة، الدماء
أ
تغطيه، وتن�سكب منه اإىل االر�س يف بقعة كبرية تنت�رس حوله.
أ
كان يبدو يف النزع االخري..
أ
لن اأن�سى هيئة زوربا ما حييت. ذاك االمل ي�سكن اأناته لن
يغيب اأبداً عن ذاكرتي.. لن يغيب.
املنفردات املقابلة واملجاورة ملنفردة �سناء غ�ست اأي�سا
ً ّ
بالكثري من املعتقالت ال�سيا�سيات.
اإحداها كانت منفردة رقم 9، حيث كانت لينا.و
(9) وجيه. غ : من املعتقلني ال�سيوعيني، كان ع�سواً يف املكتب ال�سيا�سي
حلزبه املعار�س، اعتقل ملدة 5 �سنة ابتداء من �سنة 789وحتى 00 وهو
من مواليد 89.
0
42. واأنطوانيت.ل(0) حم�سورتني يف منفردة ت�سيق مبعتقلة واحدة.
لطاملا تهام�ستا يف نهاية الليل مع املنفردة املقابلة رقم 0،
منفردة �سناء.
أ
-اأتعرفني.. عامل املنفردات هو عامل االقدام وال�سحاحيط.
هم�ست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة على ركبتيها،
ت�سرتق النظر من حتت باب املنفردة احلديدي.
الوقت مير، ولينا تق�سيه منبطحة تراقب، من خالل ّ
قدام املارة أ
ال�سنتيمرتات القليلة الفا�سلة بني الباب واالر�س، اأ
يف كوريدور الفرع، اأقدام ال�سجانة واملعتقلني علها تلتقط
ّ
هوية اأحدهم.
ً أ
املنفردة تلك �سمت لينا واأنطوانيت الكرث من يوما،
ّ
خرى. نامتا فيها (عقب وراأ�س)، كل منهما حتت�سن اأقدام االأ
على الرغم من ذلك كان الو�سع يف املنفردة اأكرث راأفة من
أ ً ً
وجود لينا قبال، وملدة يوما، يف غرفة يف الطابق االر�سي،
طابق التعذيب والتحقيق.
هناك كانت ت�سعر اأنها يف م�سلخ حقيقي:
اأ�سوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار، ال�رساخ
واالنني ورائحة �سديد حتا�رس روحها وهي تق�سي الوقت أ
م�ستيقظة حتاول، كمازوخية، معرفة ال�سباب والبنات من
اأ�سواتهم، فيما تتواىل جل�سات التعذيب على الدوالب
(0) اأنطوانيت. ل : معتقلة �سيا�سية من مواليد 79 اعتقلت من �سنة 789
وحتى �سنة 099.
43. والكهرباء والكر�سي و... تتواىل وتتواىل.
يف ليلة من تلك الليايل �سمعت لينا اأحد ال�سجانة، اأثناء
نوبة حرا�سته الليلة، يغني بل�سان اأحد امل�سجونني اأغنية �سميح
�سقري:
هي يا �سجانة!! هي يا عتم الزنزانة...
كان �سوته يتهدج وهو يئن:
لو ما اأمي تركتا بعيد..
ولو ما ا�ستقت ل�سيعتنا..
ثم �سمت.
أ
الول مرة حت�س لينا بان لل�سجان م�ساعر تختنق بروائح
ّ أ
أ
الفرع، اأذنني تتهالكان من اأنات االمل و�رساخ التعذيب، واأن
له اأحبة يحتاج اإىل قلبه ليحبهم.
الول مرة تكت�سف لينا اأن لل�سجان قلبا.
ً أ
...
ذات يوم، يف وقت ما بني وجبة ال�سباح والظهر، دفع اأحد
العنا�رس الباب بغتة بحركة منت�رسة. كانوا ثالثة، عيونهم تن�سح
ب�زشرات ال�سماتة ونظرات الفرح.
اعتقلوا اأحد رفاقنا.
فكرت.
ُ
رمبا خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي اأنطوانيت. لكنهم مل
ينب�سوا بحرف، اأخذوين فح�سب معهم، طم�سوين، �سدوين اإىل
ّ ّ
44. فوق، وراحوا يجرجرونني على ال�سلم باجتاه غرف التحقيق.
كان ج�سدي يرتطم بكل درجة من الدرجات احلجرية
التي بدت يل اأنها لن تنتهي.
هناك، يف غرفة التحقيق الكبرية، نزعوا الطمي�سة عن
عيني.
كان اأكرث من خم�سة ع�رس �سابطا متحلقني حول رجل جاث
ً
على ركبتيه يف الو�سط. رحت اقرتب من احللقة ودف�ساتهم يف
ظهري تقربني اأكرث.
ّ
و�سح االج�ساد تبتعد عن الو�سط، واأنا اأتبني ال�سورة اأ أ
أ
فاو�سح:
الرجل مدمى..
ّ
يداه مربوطتان اإىل الوراء
يت�سح االنهاك ال�سديد من التعذيب عليه..
إ
اأ�سحيت، وبدف�سة واحدة يف ظهري، وجها لوجه معه..
ً
كان عدنان. م().. زوجي.
مل اأجد نف�سي اإال واأنا منهارة على ركبتي اأمامه، زحفت
ال�سمه، ال�سم رجال مدمى من املفرت�س اأن يكون زوجي،
ً ً أ ّ أ ّ
لكن العنا�رس �سدوين بعيداً فيما كان عدنان ي�سيح:
ّ
- ال تخايف لينا.. ما بيخوفو.. ال تخايف.
لبطوه على عينه.
() عدنان. م: معتقل �سيا�سي �سيوعي اعتقل ملدة 5 �سنة من �سنة 89
وحتى �سنة 00 وقد تنقل فيها بني عدة �سجون.
45. �رست اأ�سمع �سوت �رساخه وركالتهم على ج�سده وهم
ي�سدونني خارجا على الرغم من �رساخي الذي �سم مبنى
ّ ً
الفرع برمته.
ً
يف املنفردة كان و�سع لينا �سبيها بو�سف كولن ول�سن
أ
ال�سلوب النازية االملانية، فر�س نظام اأ�سموه: مل يعد اإن�سانا.
ً أ
ال يجد االن�سان نف�سه، بالتعذيب والقهر املتوا�سل، اإالإ
وهو يرتاجع عن اإن�سانيته حتى حيوانيته.
أ أ
كان على عدنان يف االعلى، ولينا يف اال�سفل، اأن ي ّتبعا ما
�سبق واأ�سميته غريزة البقاء، اأي اأن يفكرا بالبقاء فح�سب. دون
اأية تبعات اإن�سانية جانبية وثانوية يف ذلك الوقت.
كان عليهما اأن يجاهدا للعي�س.
تركوها طيلة الليل لت�سمع اأ�سوات تعذيبه التي ت�سلها
بو�سوح �سديد، جتلدها، تلذعها، تطبق اخلناق على �سدرها،
أ
وحتاول اأن تنتزع نف�سها االخري.
طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة على نف�سها يف الزنزانة بال
حراك.
بعد اأيام قليلة نقلت واأنطوانيت اإىل املهجع رقم دون
اأن تعرفا ماذا حل بعدنان، ومن ثم نقلتا من جديد اإىل
ّ
املزدوجات().
() املزدوجات عبارة عن اأربع زنازين �سغرية (0.*08.) لها �سقيفة
واحدة. تتقابل كل زنزانتني منهما، وبينهما الكوريدور واحلمام وحمرك
ال�سجان والباب اخلارجي املو�سد يطل على كوريدور ال�سجن.
46. هناك كان ينتظرهما، كما كل املعتقالت، ما مل يتوقعنه.
التعذيب قد يودي اأي�ضاً اإىل اجلنون..
ؤ
أ
فكرة اأ�سحت ثابتة يف ذهن معتقالت فرع االمن.
كيف �سي�ستطعن جميعهن، حتى بعد �سنوات من االفراج
إ
عنهن، حمو جمد.اأ() من الذاكرة؟!
كانت جمد فتاة طويلة ممتلئة اعتقلت بعد اأن مت اعتقال معظم
الفتيات من حزبها ال�سيوعي. اإال اأن �سيئا وحيداً ظلت جمد.اأ
ّ ً
تتذكره هو التعذيب، التعذيب بالكهرباء فح�سب!
ّ أ
يف الفرتة االوىل ظلت �ساهية، الهية عما حولها، متوحدة
ً أ
مع نف�سها والورق الذي كان ياتي اإما تهريبا من بع�س ال�سجانة
أ
املتعاطفني اأو من الورق اال�سمر يلفّون به باكيتات الدخان.
() جمد. اأ: معتقلة �سيا�سية من مواليد 9 اعتقلت يف �سنة 989 وكانت
يف ال�سنة الثالثة من درا�ستها اجلامعية. واعتقلت اأختها على اإثرها (ميادة) وهي
يف ال�سف الثاين الثانوي، لتبقى اأ�سهر يف ال�سجن، ثم يطلق �رساحها. بعد
االعتقال بثالثة اأ�سهر تلقت جمد �رسبة من قبل اأحد املحققني على راأ�سها،
اأدت اإىل حدوث كدمة دموية بالراأ�س �سببت لها م�ساكل ع�سبية ونوبات �رسع
ؤ
�سديدة يف الفرع. �سارت توخذ اإىل امل�سفى كل فرتة وتعود اإىل ال�سجن. ثم
ن و�سع جمد جلبوا اأمها لتجل�س معها مدة �سهر كامل �سجينة يف امل�ست�سفى، الأ
اأ�سحى �سعبا للغاية. اأطلق �رساحها بعد �سنة و�سهرين من االعتقال وذلك �سنة
ً
099. بقيت تتعالج من �سنة 099 وحتى �سنة 599، ثم ا�ستطاعت
احل�سول على جواز �سفر على اأ�سا�س اخلروج اإىل بلد جماور ال�ستكمال العالج.
وهناك ا�ستطاعت اأن حتوز على اللجوء ال�سيا�سي يف اأوكرانيا، وهناك ح�سلت
على اللجوء ال�سيا�سي يف اأمريكا. تعي�س جمد. اأ االن كالجئة �سيا�سية يف مدينة
آ
أ
هيو�سنت االمريكية.
47. جمد والورق وقلم الر�سا�س .
كانها كانت تكتب النا�س، ت�ستعي�س بالكتابة عن عالقتها أ
باملعتقالت يف الزنزانة، عن عالقتها بالعامل اخلارجي البعيد.
قد متر �ساعات طويلة متوا�سلة وجمد منكبة على الورق
ّ
تكتب!
فجاة بداأت حاالت الهي�سترييا تاتيها متباعدة: نوبات طويلة
أ أ
من ال�رساخ املبهم والت�سنجات العنيفة يف يديها ورجليها.
النوبة قد متتد اأحيانا اأربع �ساعات اأو اأكرث يف مكان �سيق
ً
أ
كالزنازين حم�سور بع�رسات االج�ساد املتململة.
ً
�ساعات من العواء حتى يبح �سوتها، ومن ثم تهمد متاما..
ّ
لتمتد �ساعات اأخرى من املوات، موات حقيقي بال ح�س اأو
ّ
حركة!
ثم ت�سحو.. وتعود اإىل الكتابة.
ؤ
تلك احلالة، حالة جمد املوملة، قد تعيد اإىل الذاكرة ما
أ ً
كتبته فيلي�سيا الجنر يوما، وهي �ساحبة الكتاب ال�سهري: بام
عيني().
كان هناك الكثري من حاالت التعذيب للمعتقلني الفل�سطينيني
يف ال�سجون اال�رسائيلية. قاد التعذيب الكثري منهم اإىل املوت اأو
إ
أ
اجلنون اأو العاهات الدائمة. من االمثلة كان ا�سم �سامل جاد عيد
يلوح دوما: اأ�سيب باجلنون ب�سبب التعذيب، وظل �سنوات ً
أ ؤ أ
() فيلي�سيا الجنر، بام عيني، مو�س�سة االر�س للدرا�سات الفل�سطينية، العا�سمة
79.